1. تذكرُ الكنيسة في هذا الأحد الثالث من زمن الصوم الكبير شفاء المرأة المنزوفة التي ترمز بنزفها إلى نزف القيم الروحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والوطنيّة بسبب الخطيئة وحالة العيش فيها. لكنَّ الآية تعلِّمُنا أنّ يسوع وحدَه قادرٌ أن يشفيَنا من هذا النزف ومن الخطايا التي تتسبّب به إذا التجأنا إليه بإيمان تلك المرأة، ونحن مثلها نلمس، لا طرف ردائه، بل كلامَه الحيّ الذي نسمعه، وجسدَه ودمَه اللّذَين نتناولهما تحت شكلَي الخبز والخمر. نصلّي اليوم لكي يكونَ زمنُ الصوم الكبير مناسبةَ لقاء بالربِّ يسوع، مماثلٍ للقاء المرأة المنزوفة به، بواسطة صيامنا وصلواتنا وتوبتنا وأعمال المحبة والرحمة تجاه إخوتنا وأخواتنا في حاجاتهم المتنوّعة.
2. يسعدُنا أن نحتفل معاً بهذه اللّيتورجيّا الإلهيّة، وأن نرحّب بكم جميعاً ونحيّيكم بالربّ يسوع. وإنّا معاً نحيّي رابطة كاريتاس – لبنان،ممثّلةً بيننا بهذا الجمهور الكبير من أسرتها، وعلى رأسهم سيادة أخينا المطران ميشال عون المُشرف عليها باسمنا، كرئيس لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وسيادة أخينا المطران فرنسيس البيسري المشرف السابق، ورئيسها الخوراسقف سيمون فضّول الذي عيّنه قداسة البابا فرنسيس، وفقاً لمقرّرات سينودس أساقفتنا المقدّس، إكسرخوساً، رئيساً كنسيّاً على إكسرخوسيّة أفريقيا الغربية والوسطى المارونية، وزائرًا رسوليًّا على موارنة أفريقيا الجنوبيّة، وحضرة الخوري بول كرم المُنتخَب رئيساً لرابطة كاريتاس – لبنان.
نتمنّى لحضرة الإكسرخوس النجاح في مَهمّته الكنسيّة الجديدة، وهو جديرٌ ومستأهل، ولرئيس الرابطة الجديد النعمةَ والنورَ الإلهييَّن في مسؤوليّته الكبيرة هذه، وقد تمرّس على هذا النوع من الخدمة في إدارته، كمدير وطني، للأعمال البابويّة للرسالات، في لبنان ومنطقة آسيا. كما ونحيّي أعضاء مكتب كاريتاس والمجلس وسائر المسؤولين في الأقاليم والمراكز، والمرشد العام والمرشدين المحلِّيين. لقد شاءت الرابطة أن يكون هذا القداس الإلهي “قداس شكر” لانتهاء مهام رئيسها الحالي وتسلُّم الرئيس الجديد مهامه. نسألُ الله أن يقبلَ صلاتَنا ويفيضَ نعمَه عليكم جميعاً وعلى كاريتاس – لبنان، جهاز الكنيسة الراعوي – الاجتماعي، وعلى كلّ الذين ينعمون بخدمتها، وجميع المُحسنين إليها.
3. تندرج خدمةُ المحبّة في كاريتاس – لبنان، في خطّ محبة المسيح، الذي تماهى مع الجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسجين، مادّياً وروحيّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً، وسمّاهم “إخوته الصغار” (راجع متى 25: 35-40). وها محبّتُه تتجلّى اليوم أمامنا في آية شفاء المنزوفة، وآية إقامة ابنة يائيروس من الموت. إنّ كلَّ العاملين في كاريتاس – لبنان يواصلون محبّة المسيح للبشريّة الجريحة، بل هي محبّته تتجسّد في محبّتهم، وتَعبُرُ، من خلال قلوبهم وجهودهموافكارهم وتضحياتهم، إلى الإخوة والأخوات في مختلف حاجاتهم.
تتوزّع محبة هؤلاء، بواسطة الرابطة، على قطاعات متنوّعة هي: الصحّة والشأن الاجتماعي، والشبيبة والأطفال، والمُسنّين، والنموّ الاقتصادي، وشؤون اللّاجئين والنازحين والعمّال الأجانب، وخدمة الطوارئ، وسواها من القطاعات والمساحات الطارئة. يكفي الاطّلاع على تقرير نشاطات كاريتاس – لبنان السنوي، لكي ندرك حجم هذه المؤسّسة واتّساعَ تطلّعات خدمة المحبّة فيها، وهيكليّتَها ومؤسّساتِها التي تؤمّن استمراريّةَ خدماتها وتطويرَها ونموَّها. نشكر إلهَ المحبة على إشعال شعلة محبته في قلوب المسؤولين في رابطة كاريتاس – لبنان، وجميعِ العاملين والمُحسنين والمتطوّعين.
4. تُبيّن آيتا اليوم أنّ الربَّ يسوع هو في حضور دائم بيننا وبين جميع النّاس، بنتيجة قيامته من بين الأموات. علّم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني “أنّ يسوع حاضرٌ دائماً في كنيسته، وبالأخصّ في الأفعال اللّيتورجية. فهو حاضرٌ في ذبيحة القدّاس سواء في شخص الكاهن خادم هذا السّرّ، الذي يّقدّم ذبيحة الرّبّ المقدَّمة مرّة واحدة على الصّليب، أم، وبنوع خاصّ، في الخبز والخمر المحوّلَين إلى جسده ودمه. وهو حاضرٌ بقوّة نعمته في الأسرار المقدّسة، بحيث أنّه، إذا عمّدَ أحدٌ، هو المسيح نفسه الذي يُعمّد. وهو حاضرٌ في كلامه، فهو الذي يتكلّم عندما تُقرأ الكُتُب المقدّسة في الكنيسة. وهو حاضرٌ عندما تُصلّي الكنيسة وتُسبّح الله، بحسب قوله: “إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، أكون أنا بينهم” (متى 18: 20؛ في اللّيتورجيا المقدّسة، 7)؛ كما أنّه حاضر في الجائع والعطشان والعريان والغريب والمريض والسجين (راجع متى 25: 35-36).
من الضّروري أن نبحث عنه مثل “الجموع الذين كانوا ينتظرونه” (لو8: 40).
إنّه بحثٌ شخصي يسعى إليه كلُّ مؤمن ومؤمنة، وبحثٌ جماعي تقوم به الجماعة المسيحيّة عندما تُشارك في عمل ليتورجي، أو تلتقي للصّلاة معاً، أو تلتئم في لقاء إنجيلي.
في هذا الجوّ من الشَّوق والإنتظار ليسوع، بحثَ عنه اثنان يذكرهما إنجيل اليوم: يائيروس رئيسُ المجمع يأتي إلى يسوع ويتوسّل إليه أن يدخل بيته ويشفي ابنته المُشرفة على الموت، فلبّى التماسه وأقام ابنته من
الموت (لو8: 54)، والمرأة المنزوفة التي اكتفت بلمس طرف ثوبه، فشُفِيَت للحال (لو8: 44).
5. نزفُ الدم يرمز إلى نتائج الخطيئة التي هي نزف القيم الروحيّة والأخلاقيّة والانسانيّة والاجتماعيّة، ونزفُ روح المسؤوليّة والتجرّد عند المسؤول أكان في العائلة أم في الكنيسة أم في المجتمع أو في الدولة. من نتائج الخطيئة، نزفُ قيم الإيمان، الظاهر في الشكّ والتشكيك بقبول حقائق الإيمان ووصايا الله وتعليم الكنيسة، وبرفض هذه الحقائق وإهمال الوصايا والجحود، وعدم الممارسة الدينية، وتغيير الدِّين والمذهب؛ ونزف قيم الرجاء، الظاهر في اليأس من خلاص الله، ومن قدرة نعمته، والادّعاء بالخلاص الذاتي، بعيدًا عن الصلاة وممارسة الأسرار، ولاسيما سرَّي التوبة والقربان؛ ونزف قيم المحبّة لله، الظاهر في الابتعاد عن الممارسة الدينيّة، وإهمال يوم الرب وقداس الأحد، وفي عدم العرفان بالجميل لله، الذي منه كلُّ شيء نملكه بدءًا من الحياة، والفتور الروحي وعدم أداء شهادة المحبة لله؛ ونزف قيم المحبة تجاه الناس، الظاهر في الحقد والبغض والضغينة، وأفكار السوء، ومبادلة الإساءة بالإساءة، والشّر بالشّر.
6.من نتائج الخطيئة على مستوى الحياة العامّة، نزفُ روح المسؤوليّة في العمل السياسي والإداري الظاهر في إهمال الخير العام والفساد والرشوة وسرقة المال العام، وفي حرمان المواطنين من فرص العمل والعيش بكرامة وكفاية إقتصاديًّا ومعيشيًّا، وفي ممارسة الظلم والاستبداد والاستكبار، وفي التسبّب بالفقر والهجرة والممارسات الشاذّة لكسب المال وأساليب العيش. ليس النزيف محصورًا بنزيف المرأة والدم بل هو نزيف نعاني منه كلنا.
هل يشعر المسؤولون السياسيّون في لبنان ويدركون كم بلغ تفاقم النزف الاقتصادي والاجتماعي والأمني والإداري في العشرة أشهر التي استغرقت لولادة الحكومة؟ وفي الشهر الذي اقتضى لإيجاد صيغة للبيان الوزاري، مع ما يرافقها من تحفّظات تتعلّق بمرجعيّة الدولة “الواحدة أرضًا وشعبًا ومؤسّسات” كما تنصّ الفقرة الأولى من مقدمة الدستور؟ نأمل منهم وبخاصّة من المعنيّين المخلصين للبنان وللدولة، بكلّ مقوّماتها، إيقاف هذا النزف، بالاتّكال على قدرة الله وعنايته، وتصحيح ما يلزم في الصيغة وتفسير المُبهَم، ومحض الثقة للحكومة، من داخلها اولاً ثم من خارجها، والانصراف بجدّية إلى العمل في القطاعات الملحّة، وإلى إعادة الثقة بهم وبالدولة لدى الشعب اللبناني، الآخذ بفقدانها، وبخاصّة لدى شبابه الطالع، وتحضير البلاد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في موعده الدستوري، والانكباب على ورشة النهوض بدولة لبنانية قادرة وعادلة ومنتجة على أسس الدستور والميثاق الوطني والثوابت والمكتسبات.
7. آيةُ شفاء المرأة المنزوفة تبيِّن قدرة الربّ يسوع على شفاء كلّ إنسان من خطيئته وإيقاف نزف القيم على كلّ المستويات. ولو بلغت الأمور إلى حالة شبيهة بالموت، أعني حالة فقدان أيّ رجاء وأمل بالإصلاح، فالربّ يسوع الذي أقام ابنة يائيروس من الموت قادر أن يقيمنا من الموت الروحي والأخلاقي والشخصيّ والجماعي والوطني. المهمّ أن نلجأ إليه بإيمان، ملتمسين النعمة الشافية التي إذا “لمستنا” شفتنا. المرأة المنزوفة شفيت بلمس طرف رداء يسوع. نحن “نلمس” كلامه عندما نسمعه، و”نلمس” جسده ودمه عندما نتناوله. إذا فعلنا ذلك بإيمان شُفينا.
8. نصلّي إلى الله اليوم، بشفاعة أمِّنا مريم العذراء سيدة لبنان، وسلطانة السلام، لكي يُحيي فينا إيمان المرأة المنزوفة وإيمان يائيرس، لكي نلجأ إليه، فيشفينا من نزف الخطيئة ونتائجها، ويقيمنا من حالة الموت الروحي والمعنوي والأخلاقي. نصلّي من أجل الاستقرار في لبنان، والسلام في سوريا والعراق، وفي الأراضي المقدّسة ومصر.
ونسأله أن يجعل من كلّ واحد منّا ومعاً “صانعي سلام” لنكون حقّاً أبناء وبنات لله: “طوبى لفاعلي السلام، فإنّهم أبناءَ الله يُدعون” (متى 5: 9).
لإله السلام، الآب والابن والروح القدس، كلّ مجد وإكرام وشكر الآن والى الأبد، آمين.