إنّ خلق الإنسان قد تمّ ” من ملء ” باللاتينيّة Ex plenitudine كما يقول الإنجيل ” ومن ملئهِ نلنا بأجمعنا ، نعمة فوقَ نعمة ” يو 1 : 16 ، وأيضا قد تمّ ” من حبّ ” Ex amore ، ” الله محبّة ” 1 يوحنا 4 : 8 .
إذن ، لنكن هنا حذرين في إستعمال المصطلحات والتعابير : إنّ الله خلق الإنسان ” من ملئه – من حبّه” ، لا ” من العدم ” ؛ فالأخير لا وجود له بحدّ ذاتهِ إلا بالنسبة إلينا نحن المحدودين ، وليس هو مادّة سابقة خلق الله بها العالم . أما بالنسبةِ إلى الله ، فالعدم لا وجودَ لهُ ، لإنّ الأمور مكشوفةٌ أمامه كلّها. وهناكَ تعبيرٌ آبائيّ رائع يقول : إنّ الله خلق كلّ شيء ٍ ” من عدم ” ، أي (من لا شيء – من أجل لا شيء ) ، أي لا يوجد محرّك في داخل الله يدعو للأنانيّة والمصلحة النفعيّة أو الغاية النرجسيّة !.
الحبّ هو سرُّ الخلق ، ويجبُ أن نُسقطَ كلّ أوهامنا وتصوّراتنا الجامحة ، التي تُصوّر لنا أنّ الله ، في خلقه ، تسلّط بأسلوب ٍ تعسفيّ على الإنسان ، كسيّد مستبدّ كبير . دعونا من هذه التصوّرات والمخيّلات والأفلام الهزليّة السخيفة ، التي تشوّه لا صورة الله فقط ، بل والأكثر ، صورة العالم والإنسانيّة . دعونا نفكّر بمنطق ومصداقيّة وبعقلانيّة ، فليس الله ضدّ العقل والمنطق أبدًا ، ولم يحثنا من أن ندحض الفكر والعقل والمنطق ، ونركُنهم جانبًا ونهتمّ فقط بالروحانيّات حصرًا ، فهذا قمّة الجهل والغباء المطبق (عذرا على الوصف ) .. تعليمُ الكنيسة واضح في هذه المسألة ، العقل والإيمان يسيران سويّة ولا يتعارضان ، قد يكونُ الإيمانُ فوقَ العقل والمنطق ، لكن ليس مخالفا وضدهما أبدًا ، فكما أنّ الأعجوبة ليست مخالفة لقوانين الطبيعة ، بل هي ما وراء قوانين الطبيعة ، كذا الإيمان هو ماورائيّ وليس مخالفا للمنطق ، وكما قال أحدُ الآباء القديسين ” للقلب (الإيمان ) منطقٌ لا يفهمهُ العقل! .
وكما أنّ في موضوع الثالوث الأقدس ، لا يمكننا أن نستوعبهُ ونضعهُ في ميزان العقل والمنطق ، بل نقدرُ أن ندخلَ في ” عقلانيّة سرّ الثالوث ” .
إذن ، نعودُ ما قلناهُ أعلاه ، خلق الله كان بلا سببٍ ولا حاجةٍ في نفسهِ ، إن أردنا أن نقول ، إن سببَ الخلق هو ” الحبّ – المحبّة ” ، وما سببُ الحبّ – المحبّة ؟! هل نقدرُ أن نجيبَ على هذا السؤال ؟ .. نقول : سبب الحبّ هو الحبّ ولا غير .
إستبعادُ التسلّط والسيطرة والسلطة ، في سرّ الخلق ، سوف يعطينا مدىً بعيدًا ، مستقبليّا للفهم السليم والمقبول . وعلينا أن نضعَ في سلّة حياتنا ، منطق المحبّة ، لا منطق السلطة والسيطرة ، التي وإن كانت في البداية خفيفة على الفكر وبسيطة ، بحسب ما نرى ، لكنّها قد تُصبح في المستقبل وبمرور الوقت ، مرضا وكارثة كبيرة تدمّر نفوسنا ومن هم حولنا ، وقد تتحوّل إلى ” عنجهيّة وساديّة قاتلة ” نعكسها على الله ، ثمّ تنعكسُ في تعاملاتنا اليوميّة مع بعضنا البعض ، وهذا ما نراهُ اليوم في أسياد العالم ورؤساءه .