كيف بإمكاننا التعلّم من خبرة الماضي في تجنيب وطننا لبنان مرّة جديدة ويلات الحرب؟ وما هي العبر الروحية والوجدانيّة والإجتماعيّة «التي يمكننا أن نستخلصها من تلك السنين التي سيطرت عليها”أيديولوجيات الشر”…»[1] ؟ الجواب نجده عند القديس الطوباوي يوحنا بولس الثاني هو : «أن نتعلّم المسيح… الذي وضع نفسه بين يدي الآب الى درجة صرخ فيها من على الصليب “يا أبتاه في يديك أستودع روحي [لو23: 46] … أي الدخول الى أعماق سرّ الله والذي يصنع فداء العالم»[2]. ها نحن اليوم نتذكّر الحرب الأهليّة اللبنانيّة، التي بدأت سنة 1975 أدّت إلى نتائج وتداعيات سلبيّة هزّت الواقع الإجتماعيّ برمّته ولاسيّما الواقع المسيحي[3]…
صحيح أن الوضع الذي إختبرناه في لبنان يختلف عن إختبار كنيسة بولونيا- كنيسة البابا القديس، غير أننا نتقاسم سويًا حقيقة مشتركة ألا وهي”تعلّم المسيح”. لهذا يُعدّ قديسي لبنان أمثلة راعوية لاهوتيّة، تساعدنا في التحرّر من ذكريات الحرب وتداعياتها، لأنّ كل واحد منهم، يقدم لنا حياته أمثولة رجاء، تصلح لواقعنا الذي هو بأمسّ الحاجة الى الشفاء…
من القديس نعمة الله الحرديني نتعلّم أن المسؤوليّة الحقيقيّة ليست للتبجّح بل لتمجيد الله، والخلاص يتطلبّ شطارة وجهد، وعلى الإنسان ألاّ يتلهّى في حبّ الظهور، بل أن يسير مع المسيح الى العمق لأنه هناك سيجد المعنى الحقيقيّ للحياة. ونتعلّم أيضاً معنى الثقافة، أنّها ليست للتفاخر، بل هي قبل كل شيء في خدمة المجتمع والشخص والعائلة، فعلى المثقّف المسيحيّ أن يكون وديعاً حليمًا على مثال القديس الحرديني، لأنه يسهم في القضاء على الجهل بروح المسيح وليس بروح العالم[4]. لذلك فالعلمانيّة المتشدّدة التي يطالب بها اليوم بعض من المثقفين والسّاسة والفنانين كحلّ للمشكلة الطائفيّة… تضع الثقافة المسيحية بشكل خاص وإرث الآباء في لبنان في حالة خطر.
ومع القديس شربل، نتعلّم كيف نحيا الغنى الحقيقي بالله، كيف لا وهو السكران بيسوع يحثنا على مثاله أن نسكر في خمرة الملكوت التي تشفينا من الغضب والأنانية والجهل والكسل والميوعة، وتدفعنا للتغلّب على الظلم الإجتماعي، من خلال ممارسة الحق والعدالة والرحمة، فهو يدعو العائلات التي فقدت أحد الأبناء أن تشرع في التفكّر بالمغفرة الحقيقيّة، المبنيّة على العدالة والرحمة، ألم يفقد شربل أباه بسبب سياسة الأمير الضرائبيّة إرضاء للنظام العثمانيّ؟؟ ولكنه سامح[5].
ثم نأتي عند القديسة رفقا رسولة الرجاء، نتعلّم منها معنى الصبر على الألم، فهي تدعو الذين فقدوا الأهل والأقرباء والأصدقاء، ألا يخافوا لأنهم يشاركون المسيح في آلامهم لتغدو خلاصية، عليهم أن يدركوا أن الثأر لا يجدي نفعاً “فمنتهى العدل هو الظلم”، فإذا لم يُنصَفوا، عليهم أن يتمثّلوا بالقديسة رفقا فيتحملوا الصليب بصبر من أجل التعويض عن الإهانات التي ألحقت بحق شخص المسيح والأبرياء… وفي الوقت عينه تحث رفقا العائلات الميسورة، ألاّ يكونوا قساة القلوب، فبوسعهم أن يكونوا عائلات بديلة ليتامى فقدوا حنان الأم.
ألم تختبر رفقا دعم عائلة مراد السورية يوم كانت يتيمة، ويوم كانت لها عائلة بديلة[6]؟
أما الطوباوي الأخ إسطفان نعمه، إنطلاقاً من روحانيّة “الله يراني”، يطلب من المسيحيين أن يروا الله في كل شيء. فعبارة الله يرانيّ، لاهوت رعوي بإمتياز.كما أنه يقصي المسيحيين التعلّق المفرط بالأشخاص وبرجال السياسة والأحزاب، فيدفعهم الى التعلّق بالإله الأوحد يسوع المسيح فادي الإنسان. وهذه الثقافة “الله يراني”، تحث من يتعاطى من المسيحيين الشأن العام، أن يأخذوا بعين الإعتبار مقولة والدة الطوباوي إسطفان نعمه “ألا يحيد عن خيالو”.
رجل السياسة المسيحيّ مدعو بشكل أوليّ أن يسعى الى إحقاق الحق، ولاسيّما للعائلة والمظلومين والموظفين والعمال، فإسطفان يدرك تماماً أهميّة العمال ورب العمل وواجبات كل واحد منهم. صحيح أنه لم يُقدم الى درجة الكهنوت، مع أنه كان أهل لذلك، لكنّه ظلّ طائعاً لم يتمرّد على السلطة، مقتنعاً بقسمته لأنه يؤمن أن الله سيغير كل شيء[7]. حياته تدعو دوماً الكنيسة والحياة الرهبانية دعم العائلات الأكثر فقراً، ولاسيّما حث المجتمع السياسي في إعطاء الحقوق الأساسيّة لكل إنسان، وعدم التفريط بمقدرات ومواهب كل عائلة…
وها الطوباوي يعقوب الكبوشي الذي عايش حربين متتاليتين الحرب العالمية الأولى والثانيّة. قاوم الظلم على طريقة تعلّم المسيح، من خلال الحدّ من البؤس والفقر، والذود عن كرامة المهمشين والمرضى والمعوقين والمتروكين، كان يعمل مع جميع الطوائف كان شعاره “طائفتي لبنان والمتألمون”، نعم يعلّمنا هذا القديس معنى لبنان والوحدة والعيش معاً، فالخوف ليس من الطائفية بل أن يحوّل بعض الساسة الطائفية الى جمهورية البؤساء…[8]
في الختام، نتعلّم من الحرب اللبنانيّة، أن المحبّة أقوى الموت، وأن الصليب ليس الكلمة المفصلية في حياتنا بل القيامة، وهذه القيامة تعاش إنطلاقاً من إختبار القديسين.
إن أهميّة خلاص الإنسان وعيش القداسة، وتحمّل المصائب بصبر ورجاء، وتعزية العائلات المنكوبة، ومقاومة البؤس والفقر من خلال الإيمان العامل بالمحبّة، وتحقيق ثقافة الله يراني، تمكننا عمليًّا من التحرّر من أوهام الماضي وإستخلاص عبر الرجاء، وأن الإنماء الذي نحن بحاجة إليه
لا يمكن فقط أن يكون أفقيًّا بل عليه أن ينطلق عاموديًّا نحو الله أساس كل مصالحة وشفاء وتنميّة وتطوّر وإزدهار[9].
[1] – البابا يوحنا بولس الثاني، ذاكرة وهوية (تأملات شخصيّة)، ص 73.
[2] – المرجع ذاته، ص 76.
[3] – البابا يوحنا بولس الثاني، رجاء جديد من أجل لبنان، فقرة 92 و 96.
[4] – عواد بطرس (الخوري)، بركة عن قبر القديس شربل، ص 200- 210.
[5] – عواد منصور (الخوري)، بركة عن قبر القديس شربل، ص 15- 198.
[6] – حنا الياس، القديسة رفقا الراهبة اللبنانية المارونية (سيرة حياة)، ص 21
[7] – الجمهوري الياس، الطوباوي الأخ إسطفان نعمه “الله يراني”، ص 145- 154.
[8] – رزق الله سليم (الكبوشي)، المكرّم ابونا يعقوب الكبوشي، ص 173و 205و215.
[9] – راجع حول هذه المسألة، رسالة البابا بنديكتوس السادس عشر، المحبّة في الحقيقية، الصادرة سنة 2009.