عظة الخميس المقدس 2014
أصحاب السيادة المطارنة الأجلّاء،
الإخوة الكهنة الأحبّاء،
العاملين في خدمة المؤمنين ورعايتهم،
دعوني أشكركم، أبارككم، وأتمنى لكم أعياداً سعيدة ومقدسة.
في هذا اليوم المقدس إذ نحتفل بعشاء الرب، تحتفل الكنيسة أيضا بذكرى تأسيس سرِّ الكهنوت المقدس، عيد جميع الكهنة الذين أود أن أُعرِبَ لهم عن عميقِ شكرنِا وامتنانِنا.
أيّها الأصدقاء الأعزاء، إن هذا الاحتفال البهيّ يكشف مدى عظمة السر الذي أُعلِنَ هذا اليوم، واكتملَ يوم الجمعة العظيمة، نحتفل به مع كل ذبيحة قداس، ولا يمكننا فصله عن رتبة غسل الأرجل.
ذكرى تأسيس سرّ القربان الأقدس وسر الكهنوت، تجمعنا في هذا اليوم، حيث نحتفل سوياً بسر محبة السيد المسيح لنا جميعاً: أساقفةً وكهنة، مكرسين ومؤمنين، متحدين مع كافة الكهنة في العالم أجمع، ومتحدين بجميع من لم يتمكنوا من المشاركة معنا في هذا اليوم، نشكر الرب من أجل هبة الكهنوت والقربان الأقدس.
رتبة غسل الارجل:
أثناء رتبة غسل الأرجل، حيث بدت على وجوه التلاميذ الدهشة والاستغراب، وكذلك المفاجأة وعدم الوضوح، يسأل السيد المسيح: “أتفهمونَ ما صنعتُ إليكم؟” ودون انتظار الرد، يعطي تفسيراً للعمل الذي يقوم به.
“فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضاً أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض. فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضاً ما صَنَعتُ إِلَيكم” (يوحنا 12:13-15)
أيها الإخوة والأخوات، مع كوننا خطأة، كلُّنا ثقة بالرحمةِ الإلهية، دعونا نترك السيد المسيح يغسلنامن أثامنا حتى نتذوق بشكل أكثف فرح ولذّة والغفران. ومن أجلِ احتفالٍ مثمر بعيد الفصح، تطلبُ الكنيسة من المؤمنين أن يقتربوا من سر التوبة الذي هو بمثابة عبور، أي موتٍ وقيامة لكل واحد منا.
إنّ القديس بطرس الذي أنكرَ الربّ بدافع من الخوف، ويهوذا الذي خانَ سيده، والتلاميذ الذين يتزاحمون لتبوء الصفّ الأول، لم يموتوا بل هم أحياء في كلّ واحد منا.
لا داعي للخوف من التقدم من سر التوبة. إن الصفح الذي يعطينا إياه السيد المسيح هو مصدر صفاء داخلي وخارجي، يجعل منّا فاعلي سلام، في عالم تسودهُ الانقسامات والآلام ومظاهرُ الظلم والحقد والعنف. ولكننا نعلم أن الغلبةَ والكلمةَ الأخيرة لن تكون للشر، لأن الغالب هو المسيح المصلوب القائم حيّاً من بين الأموات.
أيها الاصدقاء، دعونا نغتسل بالتوبة حتى نغسل نحنُ بدورنا أقدام إخوتِنا، وهكذا نُعربُ عن رغبتنا وإرادتنا في اتباع تعاليم يسوع: وهو مثالٌ في التواضع، والطِيبة والمشاركة.
إزاء عدد إخوتنا اللاجئين المتزايد، هَرباً من الحروب والعنف، وأصبحوا دون مأوى ودون طعام، وَجَبَ علينا أن نمدَّ لهم يدَ العونِ، أن نكفكِفَ دموعَهم، مواسينَ قلوبَهم الكسيرة والكئيبة. إذ في أعمال الخير هذه تكمن عبرةُ خميس الأسرار ورسالتِه.
القربان الاقدس: سر المحبة
على مسافة قريبة من هنا، بعد أنْ كَسَرَ الخبز وقالَ لنا: “اصنعوا هذا لذكري” (لوقا 19:22)، يدعونا الرب أن نصنع معه وبه ما صنعَ هو، جاعلينَ من ذواتِنا ذبيحةً في خدمةِ إخوتِنا. حقيقةُ العطاء هذه هي مُلحة، ولن يتسنّى لنا فهمها، إلا إذا أدركنا مدى وسعِ محبته تعالى لنا.
اليوم، نحتفل بسر القربان الأقدس بعيون القلب والإيمان، وربما ببصيرة وفطنةٍ أكبر من أولئك الذين شاهدوه بعيونهم البشرية لحظة وقوع هذه الأحداث. ومن خلال هذه الأحداث، نشعر كم الربُّ وديعٌ ومتواضع وصالح، مليء بالحنوِّ والعطف على تلاميذِه، وعلى كلّ واحد منّا.
في هذا العشاء، بما يحمل من إيماءات وإشاراتِ وأقوال قوية، تكمنُ محبة ذلك الذي أسلمَ كلَّ شيء بين يد الآب. وفي هذه الإشارات والأقوال، تكمن ايضا قدرةُ الله الذي تعمل وتصنع لخلاصٍ البشرية التي يُحبُّها حبَّاً بلا حدود وبلا قيود وبلا شروط. نعم، إن ذكرى عشاء الرب الأخير، تجعلنا نكتشف “سر المحبة الإلهية”.
حب يسلّم ذاته بلا حدود، حبٌّ لا يتوانى عن بذل ذاته بلا خوف، حتى لو تعرّضَ للسحق، وللإهانة، والذلّ والصلب.
((إن غسل الأرجل ليس إلا تعبير عن محبة يسوع: لقد أحبهم حتى آخِر حدود الحب، إلى أنْ بذلَ حياته من أجلهم)) (جان بولي، بالقرب منك، ص159). غسل الأرجل هو الإشارة لما هو حقاً سرُّ القربان والإفخارستيا: الحب الذي يتواضع وينحدر ويُخلي ذاته، لكي يأتي إلينا ويقف إلى جانِبنا مشدِّداً إيّانا في ضعفنا ونجاسَتِنا وسوداوية حالِنا ونفسِنا. الحب الذي يبذل نفسه دون جزع من السخرية أو الاتضاع.
((يسوع الذي عَلِمَ أن الآب جَعلَ في يديِهِ كلَّ شيء)) (يو 3:13) وبالرغم من أنّه صاحب كلِّ قدرة، وبالرغم من أنه السيد والرب، أراد أن يتَّضعَ ويأخذَ مكانَ العبدِ المخوّل بغسلِ أقدام سيده، وهذه إشارة وحركةٌ يصعبُ تصوّرُها وقبولها وإعادتها في وقتنا الحاضر.
هذه العلاماتُ العميقة المرتبطة بغسل الأرجل وتكريس الخبز والخمر، هي نفسها تتجسّدُ من جديد الآنَ وهنا في وسطنا نحن الحاضرين والمجتمعين في هذا الاحتفال الديني المقدس، وهي ذاتُها تتجسّدُ في كل قداس عندما نتلو ذاتِ الكلمات ونعيد ذاتِ الحركات التي صنعَها الربّ أثناء العشاء، ممارسينَ إياها بالإيمان “إلى أن يأتي” (قورنتوس 26:11).
خلال الأسابيع القليلة المقبلة، سيصلُ حبرنا الأعظم قداسةُ البابا فرنسيس، رأس الكنيسة والمرشد والراعي، رجل الصل
اة والحوار، الذي من خلال أسلوب حياته وأقواله، لا يكف عن جعلنا نعود إلى روح الإنجيل: مصدر الصلاح والتواضع، بعيدا عن العنف والكبرياء.
هنا تكمن خدمتنا الكهنوتية: الله بحاجة إلى أشخاصٍ متواضعين وأسخياء، حتى يُطعِموا ويُقيتوا شعبه من خبز الحياة، ويشاركوا المسيح والبشر في آلامِهم وعذابِهم.
أيها الإخوة والأخوات، يجب ألّا ننسى رفع آياتِ الشكر والحمدِ إلى لدنِه تعالى، لأنه قد تمّ اختيارُنا لأجل هذه المهمة النبيلة، أن نشكره لأننا نعيش ونعمل هنا في هذه البلاد المقدسة، مُصلِّينَ لكي يبقى كلُّ إخوتنا وأخواتِنا، مُكرسينَ ومُكرّسات، أُمناء أوفياءَ لتكريسهم.
إن جمالَ ذبيحة القداس، لا ينبعُ فقط من كونِهِ ذكرى عشاء الرب الأخير، ولا يتأتّى فقط من الإشارات والعلاماتِ التي نصنعها، ولكنّه أيضاً يتجذّرُ في قلبِ أولئكَ الذينَ يقومونَ به، وفي أولئكَ الذينَ بالإيمانِ يقبلونَه.
أيها الإخوةُ والأبناء الأحبّاء: يوم رسامتِنا الكهنوتية، خاطبنا الأسقف قائلاً: “عيشوا ما أنتم صانعون”. “عيشوا ما أنتم صانعون” هي نصيحتي لكم جميعاً في هذا العيد، حتى نظلَّ أُمناء لذاكَ الذي هو معنا “طوالَ الأيامِ حتى انقضاء الدهر” (متى 20:28). أمين.
† فؤاد طوال
بطريرك القدس للاتين