"تطلبْن يسوع الناصري المصلوب؟ إنّهُ قامَ، وليس ههنا" (مر16: 6)

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – أحد القيامة المجيدة – بكركي في 20 نيسان 2014

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

فخامة الرئيس،

1. يسعدُني أن أرحّبَ بكم وباللّبنانيّة الأولى عقيلتِكم، في هذا الكرسي البطريركي، باسم صاحبِ الغبطة والنيافة الكردينال مار نصرالله بطرس، وإخواني السّادة المطارنة والآباء. وأنتم تأتون كعادتكم، على رأس المصلّين، من أصحاب المعالي والسعادة الوزراء والنوّاب والمسؤولين وكلِّ هذه الوجوه الكريمة، لكي نحتفلَ معاً بعيد قيامةِ ربِّنا وإلهِنا يسوعَ المسيح من بين الأموات، ولكي نجدّدَ التزامَنا بالشهادةِ لقيامته، من خلال قيامةِ قلوبِنا وسَيرِنا في نور الحقيقةِ والمحبة والسلام.

إنّها مناسبةٌ لنقدّمَ لفخامتِكم ولكلِّ الشعب اللّبناني وأركانِ الدولة، وبخاصةٍ لأبنائنا وبناتنا المؤمنين والمؤمنات الذين قضوا صومهم بالتوبة والتجدّد، وأدَّوا العبادة لله خلال هذه الأيام الفصحيّة، وتجدّدوا بالروح من اجل تواصل شهادة الحياة المسيحية في مجتمعاتهم، أخلصَ التهاني والتمنيات، راجينَ من المسيحِ الفادي والقائمِ من الموت أن يُفيضَ على شخصكم الكريم والعزيز، وعلى عائلتِكم وجميع العائلات اللّبنانية نِعَمَه الغزيرة والحياةَ الوافرة، وأن يُنعمَ على وطنِنا لبنانَ بالنهوضِ الكاملِ من معاناتِه السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة، وعلى بلدانِ الشَّرقِ الأوسط، ولا سيَّما فلسطينَ والأراضي المقدّسة والعراقَ وسوريا ومصرَ، بالسلامِ العادل، الدائمِ والشامل، وبإيقاف دوّامةِ الحربِ والعنفِ والإرهاب. فالمسيحُ الربّ، الذي انتصرَ بقيامتِه على الخطيئةِ والموتِ وسلطانِ الشّر، دشّنَ في العالمِ مملكةَ الحقيقةِ والعدالةِ والمحبةِ والسلام، وائْتَمَنَنا جميعاً، وبخاصّةٍ المسيحيّين، على بنائها يومًا بعد يوم، مهما كانت الصعوباتُ والعراقيلُ والمحاولاتُ الآيلةُ لهدمها.

2. هذا هو مضمونُ بشرى الملاكِ للنِّسوة اللّواتي أتَيْنَ باكراً صباحَ ذاكَ الأحدِ العظيم، حاملاتِ الطيوبِ ليُطيّبْن جسدَ يسوع، وقد وُضع على عجلة في القبر، بسببِ وقوعِ زمنِ عيد الفصح اليهودي: “تطلبْنَ يسوع الناصري المصلوب؟ إنّه قامَ، وليس ههنا”(مر16: 6).

أجل لقد قام، كما وعدَ وكما كتبتْ عنه الكتبُ المقدّسة. كمْ من مرّةٍ أعلن في حياته العلنيّة أنّه ينبغي له أن يتألّمَ كثيراً، وأن يرذلَه الشيوخُ ورؤساءُ الكهنة والكتبة، وأن يُقتَل، وأن يقومَ بعد ثلاثةِ أيّام؟”(مر8: 31). لم يكنْ موتُه صدفةً، بل يندرجُ في خطّ تصميمِ الله الخلاصي. فكان لا بدَّ من أن يموتَ من أجل خطايانا، كما جاءَ في الكتب. موتُه عملُ حبٍّ استكملَ تجسّده. فقد نزل من السماء وصار إنساناً، وشابهنا في كلّ شيء ماعدا الخطيئة، ومات من أجلنا لكي يغسِلَ خطايانا بدمه المُراق على الصليب، ويصالحَنا مع الله. وقام من الموت في اليوم الثالث لكي يجتذبَنا من جديد نحن البشر، ويرفعَنا إليه.

3. لم يجدِ النسوةُ جسدَه في القبر، فظنَنَّ أنّ أحداً نقله إلى مكان آخر كما افترضت مريم المجدليّة (راجع يوحنا 20: 13). لكنّ الملاكَ أكّدَ لهنَّ أن “قبرَه فارغ”، علامةٌ تدلُّ على قيامتِه من الموت، وهو أوّلُ عنصرٍ لبرهانِها. أما النِّسوةُ فلم يقلْن شيئًا لذهولهنّ وخوفهنّ (راجع مر16: 8). غير أنَّ الربّ واصل ظهوراتِه للتلاميذ على مدى أربعين يومًا. ومع هذا ظلَّ الشكُّ يراودُهم بسببِ شدّة الصدمةِ من آلام الصلب. ما يعني أنّ الإيمانَ بقيامةِ الربِّ يسوع لم يكن من نسج خيال أتباعه، ولا وليدَ نشوةٍ أو حماسةٍ أو دفاعٍ بوجهِ رؤساء الكهنة الذين، ما إن أخبرهم الحرّاسُ عن قيامةِ المسيح، حتى واصلوا ما فعلوه مع يهوذا الإسخريوطي، “فأعطَوا الجند فضّة كثيرة وقالوا لهم: قولوا إنَّ تلاميذَه أتَوا ليلاً وسرقوهُ ونحنُ نيام. وإذا بلغَ الخبرُ إلى الوالي تولَّينا نحن إرضاءه وجعلناكم مطمئنّين. فأخذوا الفضّة، وفعلوا كما لقّنوهم”(متى 28: 11-15).

فخامةَ الرئيس، أيّها الإخوة والأخوات

4. “ليس تحت الشمس شيءٌ جديد” يقول الكتابُ المقدَّس، سفرُ الجامعة (1: 9).

هناك دائماً أناسٌ مغرِضون، أعمتْ مصالحُهم عيونَهم وقلوبَهم، فماتتِ الحقيقةُ في عقولِهم والمحبةُ في قلوبِهم وخنقوا صوتَ الله في ضمائرهم. فيشترون بمالِ الرَّشوة ضمائرَ الناس للإدلاء بشهاداتٍ كاذبة، أو لتلفيق أخبارٍ وتركيب روايات بحقِّ أشخاص، بغيةَ إنزالِ الشرّ بهم، ومنهم مَن لا يتوانى حتى عن بَيعِ الوطن والشعب معًا. وما كانوا يفعلون ذلك لو لم يبيعوا هم أولاً ضمائرَهم بمال الرشوة عينه وسرقةِ المال العام والخاصّ، ليشتروا به أصواتَ الناخبين وآراءَهم ومواقفَهم. الأمرُ الذي يولِّدُ في المجتمع عبيداً لا أحراراً، كما يريدهم الله، على ما يقول بولس الرسول: “إنّ المسيحَ حرّرنا، لكي لا نُستعبد لأحد”(غلا5: 1). نأملُ أن يظلَّ الاستحقاق الرئاسيّ بمنأى عن لعبة المال.

5. لقد اختبرتم، فخامةَ الرئيس، طيلةَ عهدكم، هذا الواقع المرّ. لكنّكم اعتصمتُم بالحقّ. قلتُم الحقيقة بوجه الجميع، في الداخل وفي الخارج، فأرضيتم ربَّكم وضميركم من موقعكم، رأس الدولة وحامي الدستور، وللتاريخ أن يقول فيكم كلمة الفصل والإنصاف.

لقد قلتُم حقيقةَ لبنان، بكيانه وشعبه ومؤسّساتِه، وأعدتم له مكانتَه ومكانَه في الأسرتَين العربيّة والدّوليّة، فكانت مبادرةُ الدّول الكبرى لدعمه. هذه الحقيقة
إيّاها أعطت البلادَ حكومةً ائتلافيّة تقومُ بجدّيةٍ في مسؤوليّاتها، وتحقّقُ إنجازاتٍ مهمّة؛ وأعادت للمجلس النيابيّ نشاطَه التشريعيّ الذي شهدناه، وسيتواصل، بعون الله. وبحسب نواياكم وتصميمِكم على تسليم رئاسة البلاد، في موعدها الدستوري، لرئيسٍ جديد يُنتخب، فكانت دعوةُ رئيسِ مجلس النوّاب لبدءِ الجلسات الانتخابيّة يومَ الأربعاء 23 نيسان الجاري.

6. إنّنا معكم نناشدُ نوّابَ الأمّة القيامَ بدورهم المشرّفِ الذي يُوجب عليهم الحضورَ في كلِّ الجلسات الانتخابيّة التي يدعو إليها رئيس المجلس. إنّه لشرفٌ حقًّا ينالُه النائبُ بتمثيل الشعب في انتخاب رئيسٍ للبلاد بوكالةٍ تسلَّمها يومَ انتخابه. ومعلومٌ أنّ رئيسَ البلاد، الذي يُشكّلُ، بالحقيقة، الرأسَ للدولة والرمزَ لوحدة الوطن، يأتي انتخابُه ضمنَ عمليّةٍ ديموقراطيّةٍ تتكاملُ شيئاً فشيئاً عبر الاقتراعات والإدلاءِ بالصوت الحرّ من دون أي إكراه أو غشّ، وبالمشاوراتِ بين الكتل النيابيّة والسياسيّة. ويكونُ الشرطُ الأساسُ الضامنُ لاختيار الأفضل والأجدر والأنسب، أن يضعَ الجميعُ نُصبَ أعينهم مصلحةَ الوطن العليا – فإذا فعلوا وهذا ما نرجوه – تمكّنوا من إيجاد الشخص الغني بشخصيّته وأخلاقيّته ومعرفته ومهارته وتراثه الوطني. نقول ذلك إستنادًا إلى خبرتنا الكنسيّة. فإنَّ قوانين الكنيسة تُلزم أعضاء الهيئةِ الناخبة في السينودس بالحضور والاقتراع، بحكم واجب العضويّة، من أجل الوصول إلى الغاية الفضلى.

7. قيامةُ المسيح هي الضمانةُ لقيامة القلوب، وبالتالي لقيامةِ الأوطان والشعوب. فالمسيح بموته وقيامته ساد على العالم، ويسيرُ به، بواسطة المؤمنين والمؤمنات، وعلى هديِ الروح القدس، إلى واقعٍ جديدٍ أفضل، بأسلوبٍ جديد، ونهجٍ جديد، بالمحبّة والغفران والسلام، وبالالتزام في إنماء الشخص البشري والمجتمع.

وإذ يتزامنُ التقويمان اليولياني والغريغوري، وتُعيّدُ جميعُ الكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة القيامةَ في يومٍ واحد، فإنّنا نقدّم لإخواننا البطاركة والأساقفة والإكليروس والشعب في الكنائس الأرثوذكسيّة الشقيقة أطيبَ التهاني والتمنيّات. ونسأل الله أن يعضدنا بنعمته لكي نكون قلبًا واحدًاينبض بمحبة المسيح، وبمحبّةِ كنيسته الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة؛ ونكونَ إرادةً مشتركة تسعى إلى الوحدة الكاملة، وإلى توحيد قُوانا الروحيّة والراعويّة والاجتماعيّة في خدمة أبناء كنائسنا في لبنان وبلدان الشّرق الأوسط، محافظين على وجودنا ورسالتنا فيها. فالمسيحيّة خميرةُ خيرٍ وسلامٍ ونمو، تفعل في هذه البلدان منذ ألفَي سنة؛ ونكونَ صوتًا واحدًا في الدفاع عن الإنسان في هذا الشّرق، وعن قدسيّة حياته وكرامته وحقوقه؛ ونطالب بصوتٍ واحدٍ برميِ السلاحِ جانبًا وإيقافِ دوّامةِ الحربِ والعنفِ والإرهاب، وبإيجادِ الحلول الآيلة إلى الإصلاحات السياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة اللّازمة بالحوار والتلاقي والتفاوض. وفي قلوبِ الجميع رجاءٌ وطيد بقيامةِ أوطاننا وشعوبِنا، نستمدُّه من المسيح القائمِ من الموت، مُنشدين مع اللّيتورجيّا البيزنطيّة:

المسيحُ قامَ من بين الأموات، ووطئَ الموتَ بالموت، ووهبَ الحياةَ للّذين في القبور.

المسيح قام!   حقّاً قام!   هللويا!


Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

Bechara Boutros El-Rai

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير