*
قيامة يسوع ، سرّ الإيمان . لا بل هي هذه القدحة التي فجّرت الإيمان ونشرتْ شظاياهُ النورانيّة في كلّ أرجاء الخليقة والكون . وصارت هي : نقطة إنطلاق وبدء الحياة الجديدة . لا أريدُ أن أطرح هذا الموضوع بطريقةٍ أكاديميّة مملّة ، بل وضع نقاط واضحة تعطي للسرّ – إن أردنا القول – وضوحيّته الكاملة .. وسيكونُ هذا الموضوع بجزأين فقط .
إنّ يسوع الناصريّ ، كإنسان عينيّ ، لا يمكنُ تصوّره من غير جسده. وإذا أردنا تجنّب الظاهريّة المسيحانيّة ، فكلّ السُبل تمرّ بـ “جسدانيّة القيامة ” . وهنا المسألة الوحيدة هي ، في طريقة تصوّر ” جسدانيّة القيامة- جسد القائم “.
في كتاب YOUCAT (التعليم المسيحي الكاثوليكيّ للشبيبة) ، طُرح سؤالٌ عن كيفَ تكونُ قيامة أجسادنا ؟ وجاءَ الجواب ، بإنّ ذلكَ : سرّ ! . والصورة التي يمكنُ أن تساعدنا على تقبّل الفكرة ، أنّه لدى مشاهدة بصلة أقحوان (توليب) ، لا يمكننا أن نعرف إلى أيّ زهرة ٍ رائعة الجمال ستتحوّل بعد نموّها في الأرض المظلمة .
إذن ، الجسد ليسَ لعبة قديمة تُهمَل من بعد الموت والفناء ، بل تتحوّل. لكن ، سنشعُر بالتأكيد بعنصرنا الطبيعيّ . فالمسيح ذاته لم يكن وجوده في ” الجسد ” حدثا عابرًا . إذ عندما أظهَر ذاته ، رأى التلاميذ سماته الجسديّة (لكن بطريقةٍ بعيدة عن سمات الجسد العضويّ البيولوجيّ ! )
إذا أرادَ رسّام أن يصفَ ” قيامة المسيح ” ، فمؤكّد أنه سيرسم لوحة ً يظهر فيها المسيح المنتصر ، محطّما القبرَ وصاعدًا إلى السماء ! كما يصوّرها ماتيّاس غرونفالت (حيث يخرج المسيح ممجّدا ) . لا يمكنُ تصوّر يسوع القائم كــ”سوبر مان ” ، أو كــ”الرجل الوطواط ” (BATMAN)، الذي يطيرُ ويظهرُ ، هنا وهناك، بسرعةٍ بلمح البصرْ . فإن فكّرنا بهذا الأسلوب ، فنحنُ كمَن يفكّر تفكيرًا أخرقا، يعودُ بنا إلى تصوّر وثنيّ ، أو أسطورة من الأساطير ، لا منطق ولا مصداقيّة ، وسيضيع الإيمان .
لم تكن قيامة يسوع ، ولا يمكن أن تكون كقيامة وإحياء “جثّة ” بعد موت ٍ سريريّ ! . أي ليست كقيامة إبنه يائرس أو إليعازر . فهذين قاما وماتا بعد مدّة من الزمن !. لو كانَ الأمرُ كذلك ، لوجبَ القول (كما يقول الأب فرنسوا فاريون ) ” بإنّ قيامة يسوع تقعُ برمّتها تحت قبضة الحواسّ والتاريخ ! ) . وهنا ، عندما نقولُ ” التاريخ ” ، فلا نعني بإنّ القيامة لا تمتّ للتاريخ بصلةٍ (إنتبهوا ! ) ، بمعنى أنها ” خرافة ” أبدًا ، المُستبعَد فقط ، هو أنّ قيامة يسوع ، لا يمكنُ أن تدخلَ في التاريخ العلميّ المجرّد المحض .. يمكنُ أن يُصوّر بكاميرا فيديو ، أو توضع على مائدة المؤرّخ (الذي يعتمدُ الآثار والمستندات الملموسة ! ) أو تدوّن بقلم الإعلاميّ الذي قد يكونُ شاهدَ هدم مبنى التجارة العالميّ في 11 أيلول ، مثلا ! .
إذن، لو تصوّرنا يسوع خارجًا من القبر بشكل ٍ مهيب ٍ ، لإنزلقنا إلى مستوى الأساطير الوثنيّة ، وجعلنا إليه على صورتنا ، وأدخلناه لا في تاريخنا الحقيقيّ ، الذي هو تاريخ قراراتنا ، بل في ما نريدُ أن يكونَ تاريخنا للإفلات منهُ ، وشجّعنا ” الفلكلور ” ، مع أنه يجبُ علينا ألا نساعدَ على الخلط بين ” سموّ الإيمان المسيحيّ “، وما يبدو بديلا “للفلوكلورات الوثنيّة ” .
يسوع القائم ، ليس روحًا ولا شبحًا . (اليهود كانوا يميلونَ إلى الإعتقاد بالأرواح والأشباح ) . فالإنجيل يقولُ صريحًا : ” إلمسوني وأنظروا ، فإنّ الروحَ ليسَ له لحمٌ وعظامٌ كما ترونني ” لوقا 24 : 39 . إذن ، تهدف السلسلة الآولى إلى الدلالة على أنّ يسوع قامَ بجسده ، والسلسلة الأخرى تقولُ : إنّ هذا الجسدَ لم يعُد هو هو . فالقائم من الموت ، يظهرُ ويغيبْ ، ويجتازُ الأبواب المغلقة ، جسده لا يخضعُ لحتميّات المكان والزمان . إنه هو هو ذاته (السلسلة 1 ) ، لكنّه هو نفسه أصبح مختلفا كلّ الإختلاف (السلسلة 2) . هناكَ من يصرّ على أنّ التحقيق المزوّد بجميع وسائل التسجيل ، هو ذروةُ الحقيقة التاريخيّة . وغير ذلكَ مجرّد أوهام وخرافات وهلوسات أشخاص ! .. نقولُ : هل تقدرُ الكاميرات ووسائل التسجيل ، أن تُصوّر وتدوّن الشعور والوجدان والأحاسيس مثلا ؟! .
إذن ، قول الرسل ” نحنُ شهودٌ على هذه الأمور ” (أعمال 5 : 32 ) ، هل كانوا علماء في فنّ التصوير والتسجيل الآليّ والفوتوغرافيّ في وقتهم ؟ مستحيل طبعًا ، لا يعنون : رأيناهُ خارجًا من القبر كسوبر مان ، بل : نحنُ على يقين ٍ تامّ من أنّ يسوع هو حيٌّ . فتح في شخصه ، مرّة واحدة ، أبوابَ الحياة الحقيقيّة ، إنه هو ” القيامة “.
من أرادَ أن يفهمَ ” منطق القيامة الجسدانيّة ” ، عليه أن يدرسَ فلسفةَ الجسد ، ومفهوم الجسد في المسيحيّة ، ليفهمَ ” أن إختفاء جثمان يسوع ، ليس تبخّرا للمادّة ، بل هو إنتقالُ هذه المادّة وتحوّلها في الله ” (فرنسوا فاريون ).