قلنا سابقا، أنّ الله ليس متراخيًا، ولا ساحرًا، ولا شيئا من هذا القبيل. ولهذا، فلكي نفهم الوحي الإلهيّ، علينا أن لا نتصوّره كأنه شطحات إلهية تضرب الإنسان من علو ، أو نيازك ناريّة غريبة عنا ولا دخل لنا بها لا من بعيد ولا من قريب، وعلينا أيضا أن نقرّ، إنّ وحي الله لنا ، فيه شيءٌ من الغرابة، لكن لا الغرابة السلبيّة الغامضة- كما كانت تفكر بها شعوب العالم القديم الذين كانوا يؤمنون ويعتقدون بوجود قوى خارقة إلهية يدعونها ؛ إنْ كانت الطبيعة أو أمور ما وراء الطبيعة، أو الآلهة الغريبة، ونحنُ لا نعبدُ هذه الآلهة، نحن نعبد إلهٌ معروف، وهو الذي تدخل وبدأ مسيرة مع البشر في تأريخ حقيقي واقعيّ ، وهو إله إبراهيم واسحق ويعقوب، اله الأنبياء الحي، الهٌ له مشاعر حقيقية، لا كالآلهة الصمّاء المتزمّتة الخرساء المريضة.
إذن، لا يسقط الوحي علينا من فوق – ونحن نعلم والكلّ يعلم ، ويجب أن يعلموا ويكونوا واعين، انه لا وجود للتحت وللفوق عند الله – بل انه موجود حقيقة وواقعا، ونحن نقبله كنعمة منه فقط، ونُجيبه على نداءاته لنا بحبّ وتواضع وشغف عميق، كي نقدر أن نفهم ماذا يريد، وماذا علينا نحن بالمقابل أن نفعله للآخرين وللعالم الذي من حولنا.
للوحي شيئان مميّزان، أوّلهما، انه علاقة بين أنا المخاطب – وأنت المُجيب، الله الذي له البادرة المجانيّة، والانسان الذي يقف أمام نداء الله هذا، معطيًا الجواب، ولكن جوابه هذا، ليس جوابا عن سؤال مادي بحت أو تحريريّ، وكأننا في مدرسة، المدرّس يسأل والطالب يجيب، جوابنا جواب الإيمان والقبول، وهو مسيرة طويلة وشاقة، بمعنى أنه، نحن، في كلّ تفاصيل حياتنا، يجب أن نجيب على نداءات الله لنا، لكي نكتشف وحي الله لنا، ومع العلم، وللإضافة المهمّة، أن وحي الله لا يأتينا في حالة واحدة، ومكان واحد فقط، ولكن، وحي الله أو إيحاءات الله لنا، متنوعة وكثيرة ومتميّزة، فهو قد يأتينا عند التأمل والصلاة، أو في صلاة الكنيسة مع الجماعة، أو في مكان العمل، أو في وجه الآخرين، في وجه الطفل، والمسنّ والشاب والمرأة، وفي وجوه الفقراء والمعوّقين والمنبوذين.. وحتى في الصعوبات والمشقّات المؤلمة، وهنا لدينا مسؤوليّة كبيرة جدّا جدّا، علينا أن نكون واعين لوحي الله لنا، ولا نكون مجافين متخشّبين متصلّبين إزاء الله أبدا، مثلما الله كتومٌ ونازك وشفاف، علينا، بدورنا، أن نكون هكذا شفّافين غير متزمّتين، كالعقلانيّين الذين لا يقتنعون بهذا الشيء أو ذاك.
يتبع