"الانسان مجبول من المادة"، ولا يجب أن نفهمَ هذه النفخةُ الالهيَّة كإعطاءِ روحٍ مفصولةٍ عنه كما ذكرنا، النفخةُ هنا، هي حياةُ الجسدِ، حضورُ حياةٍ وكلمةٍ، أي، يجبُ أن يتصالحَ الانسانُ مع ذاته ويقبلُها، التصالحُ مع الذات، نستطيعُ أن نقول، هو معنى الخلق ومعنى عطاء الروح. في البدء كان الإنسان المتصالح مع ذاته، الخلاّق والفعّال.
لقد رفض أرسطو، تلميذ أفلاطون – مفهوم الاشكال اللازمنية، وأنشأ بدلا عن ذلك صورة العالم كعضويّة حيّة، تتطوّر مثل الجنين نحو غايةٍ محددة. وبذلك، فقط إندمج الكون بالهدف، وانشدّ بإتجاه هدفه باسبابٍ نهائيّة، وأُعطيت الأشياء الحيّة أرواحًا لتوجّهها في نشاطها الهادف.
يقول العالم بول ديفز، في كتابه (التدبير الالهي – الاساس العلمي لعالم منطقي): "تعلنُ جميع الاديان الغربية الرئيسة، ان الله أزلي، لكن كلمة أزلي eternal لها معنيان مختلفان، فمن ناحية، تعني أن الله قد وُجِدَ في زمنٍ غير محدد في الماضي، وسوف يستمرّ في الوجود لمدّة لا نهائية في المستقبل، أو قد تعني أن الله خارج الزمن تماما (....)، فالقديس أوغسطينوس إختار المعنى الثاني عندما أكد ان الله قد خلق العالم مع الزمن وليس في الزمن، أي، من خلال اعتبار الزمن كجُزءٍ من الكون الفيزيائي بدلا من شيء تحدثُ فيه عمليّة خلق الكون، ووضع الله تماما خارجه، وبذلك تجنّب اوغسطينوس بكل أناقةٍ، مشكلة ماذا كان الله يفعل قبل عملية الخلق".
الانسانُ ليس دمىً متحركة، بل طاقةً فعّالة ناشطة، روحٌ عاقلة مفكورة (من الفكر الخلاق). وحرّة لتجديد المادة لتنمو وتتطور عبر الزمن، فكما عبر الشعب العبراني بحر الموت ذهابا الى ارض الميعاد – العالم الاخر – عالم الله – عالم الابدية – العالم الحقيقي غير الوهمي عالم المسؤوليّة وليس عالم التبعيّة ومصّ الاصبع والسباحة في حنين الرحم، منفصلا عن المياه، مخلَّصا ومحرَّرا، ثم بعد ذلك مخلوقا، وهنا لا فصل زمنيٌ يُرى بين التحرير والخلق، لان التحرير هو خلقٌ، هكذا فإن خلقُ الله هو إنفصالٌ وإنشطارٌ عن شيءٍ آخر، وخروجٌ من ماءِ الرحم الالهي لتكوين الجسد والخليقة الجديدة، وهذا على حسب إعتقادي، ما يَرفضه أصحابُ المبدأ العقلانيّ والعلمي الذين يبحثونَ عن البراهين والدلائل التاريخيّة والمختبريّة والعلميّة، نحن لا نعرف الله خالقا إلا كبدايةِ تحريرٍ وخروجٍ وانفصالٍ وخلاصٍ، ابتعاد عن عالم الطفولة ووصولا الى عالم البلوغ والمسؤوليّة والبنوّة.
أمّا فكرةُ الخلقِ من العدم، فالكتاب المقدس وإنْ تكلّم صراحةً عنه في العهد القديم كحقيقةٍ مثبّتة ومليئة بالوعدِ والرجاء فلا يجب أن يُفهمَ بحرفيّته، فبالنسبةِ إلينا نحنُ، الخلقُ نتصوّره من العدم، لكن بالنسّبة الى الله، فإنّ مفهوم العدم لا مكانَ له عندَه، لانَّ الله عندما يخلقُ لا يخلقُ كساحرٍ وكأنَّ الكائن أو الشيء غير موجودٍ واقعيّا الآن ثم يوجدهُ .. ولإننا نُدركُ أنَّ الله يحوي الكلّ وكلّ ما هو موجودٌ، موجودٌ في أزليّته وفي فكره وفي قلبه مسجّلٌ في ذاكرته... لهذا لا معنى للعدم لديه .. فالعالمُ والكونُ وخاصًّة الإنسان، في قلب وفي ذاكرة الله منذُ الأزل وجئنا الى العالم بمشيئته وحبّه العميق لنا، سَحَبنا من العدم (ليس العدم الإيجابي المنطقي أي اللاوجود المادي، وإنّما العدمُ السلبي (أي عدم اللامعنى واللاشيئيّة والسلبيّة القاتلة، فالعدم هو قوّة تدميرٍ وفوضى)، أيّ خلّصنا من اللاشيء الوجودي، كما الشعب العبراني الذي كانَ تائِهًا في صحراء الغربةِ والضياع، متحرّرا من اللامعنى واللاوجود مع الله، عابرًا البحر (بحر الموت) الى ارضِ ميعادٍ وهي تمثّلُ الله الآخر والعيشُ في الله ومع الله.
الخلقُ من العدم، يقول تعليم الكنيسة بخصوصه: العدمُ ليس هو المادّة التي منها صُنعَ العالمُ، وإلاّ لكانَ العالمَ نفسهُ عَدمًا، بل يعني عدمُ وجودِ أيَّ مادّةٍ سابقة. ومن الناحية الايجابيّة يعني أنّ الله وحدهُ دونَ سواهُ هو أساسُ العالم.