الحسد المدمّر

تمهيد

Share this Entry

الحسد هو شعور سلبيّ، يقوم على تمنّي زوال ميزة أو قدرة أو مكانة أو موهبة أو صفة لدى شخص ما، والحصول عليها بدلا منه؛ وقد يقتصر أحيانا على رغبة الحاسد في فقدان المحسود ما يُحسد عليه، حتّى لو لم يُفلح الحاسد في تحقيق مأربه الباطنيّ. إنّه بتعبير آخر، كُرهُ نعمة الله على حياة الآخرين.</p>

 كما يبغض الحاسدُ غيره أحيانا كونه يوازيه ببعض الصّفات والمزايا أو ينافسه في أمر ما، أو يجده أفضل منه بأضعاف؛ وقد قال العرب قديما: “الحسدُ يأْكل الحسنات كما تأْكل النَّار الحطب”.  بيد أنّ تلك الرّذيلة الخبيثة، قد تلحق الضّرر بصاحبها أكثر ممّا تضرّ بالشّخص المحسود، إذ ليس للحاسد إلاّ ما حسد. وعليه، يؤكّد الفيلسوف راسل(Russell)أنّ “الحسد أقوى أسباب التّعاسة”؛ ويسدي أحد الشّعراء نصحه في هذا السّياق:

“إصبرْ على كَيدِ الحَسودِ / فَإنَّ صَبْرَكَ قاتِلُه.

فالنّارُ تأكلُ بعضَها / إنْ لمْ تجِدْ ما تأكْلُه”.

ولنا في بعض الأمثال اللبنانيّة -على سبيل المثال لا الحصر- غيض من فيض التّعابير الشّعبيّة البسيطة إزاء واقع هذه الآفة التي تفرّق بين النّاس عموما، وبين الأنسباء والأصدقاء على وجه خاص، نحو: “الحَسَد بْيُقْطَعْ جِسْر البَيْتْ” أي دعامة البيت وأساسه، إذ يفرّق أهله ويخربه. والحَسَد بْيِرْمِي الأسَدْ” و”الحَسُودْ لا يَسُودْ”؛ وأيضا بصيغة سؤال: “حَسَدْ وَلاَّ ضِيقِة عَيْنْ؟ يَمَّا مْنِ الجِهْتَيْنْ” لمن يتدخّل في شؤون الغير، مشتهيا الحصول على ما حصلوا عليه من خير[1].  وربّما اختزل العالِم والمفكّر اليونانيّ بيتاغوراس (Pitagoras)كلّ الكلام منذ مئات السّنين مؤكّدا أنّ “كثرة حسّادك شهادة لك على نجاحك”.

إنّها لمسألة جديرة بالاهتمام، فلا ضير من إلقاء الضّوء عليها، والنّزوح إلى عمق ما تذكره الأسفار المقدّسة وما توجبه بعض تعاليم الكنيسة الكاثوليكيّة في هذا الصّدد.

I-    الحسد في الكتاب المقدّس

إنّ أثر شرّ الحسد على حياة الإنسان بالنّسبة إلى الكتاب المقدّس يشبه إلى حدّ بعيد فعل الجرثومة الخبيثة المهلكة في الجسم المريض؛ فالحسد قد ينخر عظام الفرد والعائلة والمجتمع (مثل 14: 30)؛ وهو بالتّالي أمر باطل (جا 4: 4)، من صنع إبليس الذي سبّب بحسده دخول الموت إلى العالم (حك 2: 24)؛ ممّا حمل القدّيس أغوسطينوس على القول فيما بعد إنّ: “الحسد هو خطيئة إبليس بامتياز”. لذا لا ينبغي السّير مع من يذوب حسدا لأنّ مثل هذا لا حظّ له في الحكمة (حك 6: 25)؛ وما من أحد أسوأ ممّن يحسد بعينه (سي 14: 8). كما ينصح صاحب المزامير من جهة أخرى، بعدم الحسد من الأشرار وعمّال الإثم والظّالمين (مز 37: 1؛ 3: 31). فمن منّا لا يذكر جريمة القتل الأولى في التّاريخ التي ارتكبها قايين بحسده من أخيه! وهي ما برحت تتكرّر كلّ يوم بأشكال شتّى في أماكن عديدة من العالم. ناهيك عن أمثلة أخرى كثيرة في العهد القديم؛ فها مشهد أبناء يعقوب الذين رموا أخاهم يوسف في البئر حسدا (تك 36: 24)، وها قصّة أبشالوم الذي أراد بحسده الاستيالاء على سلطان داود أبيه، وعزمه على خلعه من الملك (2 صم 15: 10)؛ وغيرها الكثير من المشاهد والأحداث، وصولا إلى يسوع المسيح، ابن الله المتجسّد، حيث حسده رؤساء الأحبار والفرّيسيّين وأسلموه إلى المحاكمة والموت على الصّليب، فانبلج بذلك فجر عهد الحبّ الجديد، وتمّ الخلاص (متّى 26: 18). 

أما بولس الرّسول، فيرى في الحسد ما لا يليق بأبناء النّور، جرّاء مماحكات الكلام الهدّام الذي يورث الافتراءات والظّنون الرّديئة (1 طيم 6: 4)؛ وهو من صفات الذين لم يعرفوا يسوع، كأولئك الضّالين عن طريق الإنجيل، والمستعبدين لشهواتهم ولذّاتهم المتنوّعة، والغارقين في الخبث، والمبغضين بعضهم بعضا (طي 3:3)؛ فتراه يربط الحسد بالخصام، والانشقاق، والافتراء، والظّنون الرّديئة (1 قور 3: 3)، (1 طيم 6: 4)؛ ويضعه بين الخطايا التي تَحُول دون الدّخول إلى ملكوت الله (غل 5: 21). ثمّ يستكمل القدّيس بطرس التّعليم عينه، داعيا أتباع يسوع إلى أن يطرحوا عنهم  كلّ خبث، ومكر، ورياء، وحسد، ومذمّة.

إنّه كلام الله في الكتاب المقدّس، وهو نفسه علّمنا  أنّ “الله أحقّ بالطّاعة من النّاس” (أع 5: 29).

II- الحسد في تعليم الكنيسة

يُعتبر الحسدُ في التّعليم الكنسيّ رذيلة أساسيّة، وهو يشير إلى معاناة الحزن والغمّ حيال ما يملكه الغير، والشّعور بالرّغبة الشّديدة للحصول عليه، ولو عن غير وجه حقّ. كما تذهب الكنيسة إلى أبعد من ذلك، جازمة بأنّ كلّ من يشتهي للقريب شرّا مميتا يرتكب خطيئة مميتة[2]؛ إذ أنّ الحسود بحسب القدّيس يوحنّا فم الذّهب هو “أشرّ من الشّيطان، لأّنّ الشّيطان لا يحسد شيطانا مثله أمّا الإنسان فيحسد إنسانا نظيره”[3].

قد يقود الحسدُ المرءَ إلى ارتكاب أعظم الخطايا والمآثم. لذا، يجب العمل على إقصائه من القلب البشريّ. إذ منه يولد البغض، والنّميمة، والافتراء، والفرح النّاجم عن مصيبة الآخر، والحزن النّاتج عن وجوده في الثّراء، على ما يؤكّده القدّيس غريغوريوس الكبير؛ وليس المقصود هنا الثّراء المادّيّ فقط.

إنّه رفض للمحبّة نابع من نرجسيّة الكبرياء الشّخصيّ؛ لذلك، على المسيحيّ أن يحاربه عبر التّمرّس بعيش فضيلة التّواضع. فمن رام رؤية مجد الله عليه أن يفرح بتقدّم أخيه، وأن يبارك الله في مواهب الآخرين[4].

جعل بعضُ الآباء الرّوحيّين الحسدَ أربعة أقسام:

–        حسد الخيرات الظّاهرة: عندما نحسد القريب على شكله، وممتلكاته ا
لمادّيّة  المتنوّعة؛

–        حسد خيرات العقل أو المواهب التي يتمتّع بها الآخرون؛

–        حسد خيرات الفضائل: كمن يحسد مؤمنا على صبره، وفضائله، وصلاته وتقواه، وقربه من الله؛

–        حسد الآخرين على النّعم المجّانيّة التي ينالونها من الله[5].

أمّا أنواعه فمتعدّدة: كالفرح لمصائب الآخرين، والحزن لخيراتهم، وعدم القدرة على الاعتراف بمحاسنهم أو العجز عن الثّناء عليهم عندما يلزم الأمر، وتقليد أعمالهم، وسرقة أفكارهم وخططهم، ومحاولة الحؤول دون نجاحهم، وانتقادهم الدّائم للتّقليل من شأنهم، وتجاهلهم، وشتمهم، واستكراههم.

خاتمة

ما من داء من دون دواء. وعليه، إنّ الشّفاء من آفة الحسد المدمّر ليس بالأمر المستعصي، بيد أّنّه ينبغي على المصاب به امتلاك الرّغبة في الشّفاء، والشّجاعة على مواجهته، والإرادة الصّلبة لتحمّل جميع مراحل العلاج.

لذا، يجب بادئ ذي بدء، الاقتناع نظريّا بأنّ الحسد شرّ وداء روحيّ وربّما نفسيّ؛ ومن ثمّ إقرار الحاسد أمام نفسه أوّلا بأنّ ألسِنَة نيران الحسد تلتهم عقله الباطنيّ، وأنّ الفرح لخير الآخرين هو تمجيد صامت لله على نعمه وعطاياه، كمصدر كلّ خير؛ ومن هنا قول القدّيس بولس: “إفرحوا مع الفرحين”.

أمّا من النّاحية التّطبيقيّة، فعلى الحاسد الإسراع إلى خنق مشاعر الحسد كلّما حاولت هجومها عليه، واللجوء الفوريّ إلى الله عبر الصّلاة، والابتهال من أجل خير الشّخص المحسود من قِبله[6].                                                                                                                                                                                                                                                                                  وليعبّرنّ من ثمّ، عن توبته الصّادقة عبر ممارسة سرّ التوّبة، وتغذية روحه بالقربان المقدّس، وترويض عقله على التّفكير الإيجابيّ في الأشياء والأشخاص، وتطهير قلبه من المشاعر السّلبيّة، واستشارة مرشد روحيّ، أو اجتماعيّ، أو نفسيّ إذا لزم الأمر.

يبقى الحسد على حدّ قول الفيلسوف الألمانيّ هيغل (Hegel): “أغبى الرّذائل إطلاقا، لأنّه لا يعود على صاحبه بأيّة فائدة”.

كم يحتاجون إلى الصّلاة والغفران أولئك الذين أكل الحسد قلوبهم، واستوقدت البغضاء ضلوعهم. أولئك الذين اشتعلت صدورهم بنيران الحقد والإنتقام. فما لهم من دواء إلاّ الصّلاة والصّليب، لا الخرزات الزّرقاوات  وأضاليل الرّقى وسائر التّمائم والتّعاويذ.

                                                                     الأب فرنسوا عقل

المراجع

–        التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة، التّرجمة العربيّة: المكتبة البولسيّة، جونيه، لبنان، 1999؛

–        إميل بديع يعقوب، موسوعة الأمثال اللبنانيّة، ج. 2، طبعة ثانية، ]د.م.[، 1993؛

–        يواكيم بلاديوس الحلبيّ اللبنانيّ، الرّوضة الشّهيّة في السّيرة الرّهبانيّة، تقديم وتحقيق الآباتي أنطوان صفير والآباتي بطرس فهد، المطبعة البولسيّة، جونيه، لبنان، 1995؛

[1]  راجع، إميل بديع يعقوب، موسوعة الأمثال اللبنانيّة، ج. 2، طبعة ثانية، ]د.م.[،  1993، ص. 636.

[2]  ت ك ك، 2539.

[3]  راجع، يواكيم بلاديوس الحلبيّ اللبنانيّ، الرّوضة الشّهيّة في السّيرة الرّهبانيّة، تقديم وتحقيق الآباتي أنطوان صفير والآباتي بطرس فهد، المطبعة البولسيّة، جونيه، لبنان، 1995، ص.155.

[4]  ت ك ك، 2540.

[5]  راجع، يواكيم بلاديوس الحلبيّ اللبنانيّ، الرّوضة الشّهيّة…، ص.154.

[6]  المرجع السّابق، ص.156.

Share this Entry

الأب فرنسوا عقل المريمي

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير