إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام وأولادنا الخوارنة والكهنة
والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب
اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في لبنان وبلاد الشرق وعالم الإنتشار
نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات والخيرات:
“ܬܶܩܨܶܐ ܠܰܚܡܳܟ ܠܟܰܦܢܳܐ܆ ܘܠܰܐܟܣܢܳܝܳܐ ܬܰܥܶܠ ܠܒܰܝܬܳܟ“
“… أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك” (أشعيا 58: 7)
1. مقدّمة: غايةُ الصوم اتّباع يسوع والتشبّه به
زمن الصوم المقدّس، هو اتّباع يسوع والتشبّه به في قبول إرادة الله، وفي الإنتصار على تجربة الشرير، ومشاركة المتألّمين والضعفاء والمحتاجين آلامهم، ومساندتهم، وتشديد ضعفهم، وسدّ احتياجاتهم الروحية والمادّية.
في هذا الزمن المقدّس، نكتب إليكم رسالتنا الأبوية هذه متأمّلين في صوم يسوع وصلاته ومحاربته تجارب الشيطان، أربعين يوماً، بعد قبوله المعمودية في نهر الأردن من يد يوحنّا المعمدان. كلّ هذه الأيّام الأربعين التي قضاها يسوع في الصوم، كانت له تسليماً كاملاً للآب ولتصميم حبّه. نتبع يسوع في الصوم بالإصغاء لتعليمه والإغتذاء منه، وبمناجاته في الصلاة والتأمّل. وبالصوم تتحرّر النفس كي تقبل عطية الخلاص المجانية، فتنطلق في مسيرة الشركة الحبّية مع فادينا الإلهي، إذ تشاركه في “فصحه” بالعبور من العبودية إلى الحرية ومن الموت إلى الحياة.
2. الصوم انقطاعٌ عن الطعام وإطعام الجائع والفقير
ما من شك أنّ في الصوم جانب الإمتناع عن بعض الأطعمة، كالإنقطاع عن الطعام واللحوم وسواها. وقد اختبر آباؤنا وأتقياؤنا في كلّ جيلٍ طيبَ الثمار الروحية التي يجنيها المتعبّدون، وتعود بالفائدة على النفس والجسد معاً في هذا الزمن البهي، ويتلذّذون روحياً بطعم الملكوت السماوي.
يتحدّث أشعيا النبي عن الصوم المقبول لدى الله: “يقولون لماذا صمنا ولم تنظر، ذلَّلنا أنفسنا ولم تلاحظ…! أمثل هذا يكون صوماً أختارهُ: حَلَّ قيود الشر، فَكَّ عُقَد النير، وإطلاق المسحوقين أحراراً وقطع كلّ نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيتَ عرياناً أن تكسوهُ وألا تتغاضى عن لحمك” (أشعيا 58: 3 و6 و7). وهنا نرى أنّ الصوم الذي يرضي الرب هو النابع من القلب المُسلَّم إليه تعالى، والخاضع والمطيع لمشيئته، والممتلئ بالثمر الصالح والسلوك المستقيم. فحقيقة العبادة هي أنّ الله ينظر إلى القلب وليس إلى المظاهر الخارجية.
إنّ الصوم لا يؤتي ثماره كاملةً إلا إذا جعلنا الفقير المحتاج خيارَنا الأساسي في هذا الموسم. فنحن نمتنع عن الطعام ليأكل هو، ونحرم ذواتنا من الطيّبات والمشتهيات في عالم الإستهلاك، كي نشعر مع ذوي الفاقة. هذا كان منطق الصوم في الكنيسة الأولى، إذ لم يكن رياضةً شخصيةً بل مشاركة: “وكان عندهم كلّ شيءٍ مشتركاً” (أعمال 2: 44). إنها شركةٌ تؤكّد على أنّنا عائلة روحية واحدة في جسد المسيح السرّي. ولا أحد، ميسوراً كان أم متوسّط الحال ولا حتى معوزاً، يحقّ له أن يعفي ذاته من فرح العطاء للمحتاجين والتراحم مع ذوي الفاقة. هناك دوماً فرصة يهبها الله لمن نوى في قرارة نفسه أن يتجاوب مع زمن النعمة الذي يميّز صيامنا، فيبذل للفقراء من ماله أو وقته أو موهبته. رسالة الصوم هي أن ينعتق المؤمنون من عبودية الذات، فينطلقوا متحرّرين من بؤرة الأنانية.
3. “ثبّتوا قلوبكم” (يعقوب 5: 8)
هذا هو عنوان رسالة قداسة البابا فرنسيس بمناسبة زمن الصوم لهذا العام 2015. يؤكّد قداسته أنّ “زمن الصوم هو الزمن المناسب، الزمن المقبول، كي نترك ذواتنا نُخدَم من قبل المسيح، وهكذا نصبح مثله. وهذا ممكنٌ عندما نصغي الى كلمة الله وعندما نقتبل الأسرار، وبشكلٍ خاص، سرّ الإفخارستيّا، إذ إننا بها نصبح ما نقتبل، أي جسد المسيح”.
ويتابع البابا مشدّداً على أنّ المتّحدين بيسوع، وإذ أضحوا جسد المسيح، لا يستطيعون إلا أن يحيوا بشراكةٍ كاملةٍ مع بعضهم البعض، فيسند القويُّ الضعيفَ، ويعضد الغنيُّ الفقيرَ، ويعزّي المرتاحُ المتألّمَ، فتزول اللامبالاة:
“لا يمكن لتلك اللامبالاة، التي تظهر غالباً وكأنّها تسيطر على قلوبنا، أن تجد مكاناً. لأنّ من هو للمسيح ينتمي إلى جسدٍ واحدٍ، وفي المسيح ليس هناك من لامبالين الواحد تجاه الآخر. لأنّه إن تألّم عضوٌ واحدٌ، فمعه تتألّم جميع الأعضاء. وإن تمجّد عضوٌ واحدٌ، فمعه تفرح جميع الأعضاء” (1 قور 12: 26).
4. في الصوم نتأمّل بآيات الرب يسوع التي ترافق دربَ ضعفنا
تدعونا الكنيسة في زمن الصوم الأربعيني للتأمّل بمعجزاتٍ اجترحها يسوع فادينا، لنزداد قناعةً بأنه قادرٌ أن يحوّل ضعفنا إلى قوّةٍ، وعاهاتنا إلى نعم الشفاء، وحزننا إلى فرح، وأن يلاشي شكوكنا بيقين الإيمان، فتؤول أتعابنا إلى واحات الرجاء.
نفتتح الصوم الأربعيني في كنيستنا السريانية بأحد قانا الجليل، بأعجوبةٍ مناخها السرور والإنشراح، فنفرح مع العروسين، وقد تباركا والمدعوّين إلى العرس بحضور الرب. ويوم الإثنين تُدهن جباهنا بزيت البهجة، لنرافق العريس السماوي الذي يملأنا بالفرح الروحي على درب الفداء.
وكم هو رائعٌ لقا
ء الأبرص مع الرب، تذكّرنا به الكنيسة في الأحد الثاني! فالرجل ذو العاهة المخيفة يعرف أنّ يسوع قادرٌ أن يطهّره. يجثو أمامه ضارعاً: “إن كنتَ تريد، فأنت قادرٌ أن تطهّرني”. فيتحنّن عليه يسوع، ويمدّ اليه يدَه قائلاً: “قد أردتُ، فاطهُر!”.
وهكذا من خلال إصغائنا إلى نصوص الإنجيل المقدس في زمن الصوم الكبير، نتأمّل في الآيات التي صنعها الرب لندرك قدرته الإلهية الخلاّقة، ونترنّم بمراحمه الغزيرة نحو بشريتنا الضعيفة. فهو يشفي أوجاعنا ويلاشي عاهاتنا، يمحو خطايانا، يثبّت إيماننا وثقتنا به، ويقيمنا من الموت إلى الحياة، لأنه وحده ينبوع الرجاء. يغمرنا بمحبّته غير الموصوفة، ويحنو علينا بعميق رأفته، يتضامن معنا في دروب حياتنا الشاقّة، فيحوّل الحزن إلى بهجةٍ، والألم إلى فداء.
كم من الناس المنبوذين، المتروكين، المهمَلين: مرضى مزمنين يعيشون الوحشة، وأسرى مجهولين في السجون بدون محاكمةٍ، أو بدون سؤالٍ عنهم، أو بدون معرفة مصيرهم أو مكان احتجازهم، وفقراء وجياع محرومين من لقمة العيش، وأناس يعانون أشدّ أنواع العذاب، وأشخاص منتهَكي الكرامة والحقوق. هؤلاء وأمثالهم أطلقوا بدورهم ويطلقون الصرخة عينها: “إلهي، إلهي، لماذا تركتَني؟” (متى 27: 46)
5. “.. وغريباً كنتُ فآويتموني!” (مت 25: 35)
زمن الصوم هو درب التضامن الإلهي بالمسيح مع البشرية، في عالم اليوم الذي كثرت زلاته الروحية وازداد وهنه، وانتشر فيه الشك مع اختلاط المفاهيم. يسوع المسيح، ابن الله وفادينا، المولود من امرأة، متضامنٌ مع الإنسان المتألّم والتائه، الذي رغم ضعفه ينهض من سقطاته، ومثاله يبقى دوماً معلّمه الفادي الذي، بحمله أوجاعنا بارتفاعه على خشبة الصليب، أرادنا أن نراه في الجائع والعطشان والغريب (النازح واللاجئ) والعريان والمريض والمحبوس…
الصوم زمنٌ قرباني نقبل فيه محبّة يسوع ونتعلّم كيف ننشرها حولنا في كلّ حركةٍ وكلمة: نفتح قلبنا على جراح الذين يتألّمون في كرامتهم البشرية، ونندفع بمحبّة المسيح إلى محاربة الشرور وأشكال الظلم، من إزدراء المستضعَفين واستغلال المهمَّشين، وإلى التخفيف من مآسي العزلة والإهمال والحاجة للعديد من الأشخاص. الصوم هو لكلّ مسيحي اختبارٌ متجدّدٌ لمحبّة الله التي تُمنح لنا في المسيح، وهي محبّةٌ توجب علينا أن نعطيها بدورنا لكلّ محتاجٍ ومتألّم.
بهذا المعنى يحدّد آباؤنا السريان ماهيّة الصوم المقبول لدى الله:
«ܩܥܳܐ ܗ̱ܘܳܐ ܢܒܺܝܳܐ ܒܪܽܘܚܳܐ ܕܩܽܘܕܫܳܐ ܟܰܕ ܐܳܡܰܪ ܗ̱ܘܳܐ: ܕܗܳܢܰܘ ܨܰܘܡܳܐ ܕܰܓܒܳܐ ܡܳܪܝܳܐ܆ ܕܰܢܪܰܚܶܡ ܐ̱ܢܳܫ ܥܰܠ ܡܶܣܟܺܢ̈ܶܐ. ܘܢܶܩܨܶܐ ܠܰܚܡܶܗ ܠܰܐܝܢܳܐ ܕܟܰܦܺܝܢ܆ ܘܪܰܒ ܗ̱ܘ ܐܰܓܪܶܗ»
وترجمته: “صرخ النبي بالروح القدس قائلاً: هذا هو الصوم الذي اختاره الرب، أن يشفق الإنسان على المساكين، ويشارك الجائع خبزه، فأجره إذ ذاك عظيم”. (من صلاة القومة الأولى من ليل الثلاثاء الأول من زمن الصوم، صفحة 82)
6. الصوم زمن الصلاة من أجل شرقنا المعذّب
اختبر شعبنا السرياني في شرقنا الحبيب واقعاً مجحفاً من الظلم والإهمال: لقد حُكم عليه مع سائر المكوّنات الصغيرة عدداً، أن يُبعَدَ عن المشاركة في الحياة العامّة، ويُحرَمَ من حقوقه الأساسية اجتماعياً وإدارياً، ومن حقّ أبنائه في الوظيفة والمنصب والتدرُّج، على الرغم من كفاءتهم ونجاحهم، ليعيشوا في حالةٍ أقرب من مواطني الدرجة الثانية، لا بل أضحوا مقتلَعين من جذورهم وأرضهم، وغدا جنى عمرهم وكلّ ما لهم مستباحاً من أولئك الذين يدّعون الولاء لله، ويكفّرون الناس، ويمارسون أفظع جرائم العنف والإرهاب ببربريةٍ ووحشيةٍ لا مثيل لهما في العالم.
نتوجّه بالقلب والفكر والروح إلى أبنائنا وبناتنا في العراق النازف، من الموصل وسهل نينوى الفارغة من أصحابها وأهلها، وقد هام أبناؤها تحت كلّ سماءٍ، داخل البلاد وخارجها شرقاً وغرباً، وإلى أبنائنا وبناتنا في بغداد والبصرة وإقليم كردستان، ونصلّي من أجل أن يقصّر الله معاناتهم ومحنتهم، ويمنّ على بلدهم بالسلام والأمان.
نصلّي من أجل أن يحلّ الأمان في سوريا الجريحة، متوجّهين خاصةً إلى أبنائنا وبناتنا في دمشق وحمص وحلب والجزيرة، ومصلّين من أجل السلام في وطنهم الذي طالت محنته وعظمت آلام شعبه.
وإلى الرب يسوع نضرع لينعم أبناؤنا وبناتنا في لبنان بالطمأنينة، ويزول عن هذا البلد شبح العنف والإرهاب والتطرّف الذي يتربّص به، وذلك بوعي أهله ووحدتهم.
كما نسأله تعالى أن ينعم بخيراته وبركاته على أبنائنا وبناتنا في الأراضي المقدّسة ومصر والأردن وتركيا، حتى يتابعوا أداء الشهادة لإنجيل المحبّة والسلام في هذه البلاد، متعاونين مع شركائهم في الأرض والوطن.
ولا ننسى أن نتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا الذي اضطرُّوا مرغَمين أن يغادروا أرض الآباء والأجداد إلى بلاد الإنتشار، في أوروبا وأميركا وأستراليا، ونحثّهم على التجدّد الروحي الدائم والثبات في الإيمان وتقاليد الآباء والأجداد.
7. الذكرى المئوية للمجازر بحق شعبنا السرياني
أيها الأحبّاء، يتزامن زمن الصوم لهذا العام مع إطلاق كنيستنا السريانية الأنطاكية احتفالات السنة اليوبيلية إحياءً للذكرى المئوية لمجازر الإبادة التي ارتُكِبت بحق شعبنا السرياني “سيفو ـ السوقيات”، وهي مناسبةٌ سانحةٌ وفرصةٌ لائقةٌ لنكرّم شهداءنا الأبرار الذين سفكوا دماءهم
ذبائح محرقة ذوداً على إيمانهم وتراث آبائهم وأرضهم وعرضهم، فأضحوا بخوراً عطراً ورائحةً زكيةً على مذبح الشهادة. من شهادتهم نستقي العِبَر ومن شفاعتهم ننال المعونة من الرب، لنستطيع أن نجابه أمواج بحر هذا العالم المتلاطم حولنا برجاء الخلاص بربّنا وفادينا يسوع المسيح.
8. خاتمة: الصوم وقتٌ مقبولٌ للمغفرة والتغيير
أيّها الرب يسوع، يا من صمتَ أربعين يوماً، بارك صيامنا ليكون زمناً مقبولاً لله الآب، تكفيراً وتعويضاً عن خطايانا ومعاصينا، وتغييراً في المسلك، وترميماً لعلاقتنا البنوية مع الله أبينا السماوي ومع ذواتنا ومع القريب والبعيد، مع الصديق والشامت. اجعله، يا ربّ، زمن تقاسُم خيرات الله المادّية والروحية والثقافية مع الإخوة المعوَزين والمحتاجين. ولتكن حياتنا عيشاً من أجل الآخرين، نتنبّه إلى حاجاتهم، مثل مريم العذراء أمّك في عرس قانا الجليل، ونلبّي هذه الحاجات بقوّة محبّتك.
وإنّنا إذ نسأل الله أن يتقبّل صومكم وصلاتكم وصدقتكم، نمنحكم، أيّها الإخوة والأبناء والبنات الأعزاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد. آمين.
صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت ـ لبنان
في اليوم الخامس عشر من شهر شباط سنة 2015
وهو بدء السنة السابعة لبطريركيتنا
اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي