تميز بالثبات والرصانه والاحتشام، مع وقار طلعته، وقد علّم رعيته ما تسلمه وتعلمه من معلمه القديس يوحنا اللاهوتي الرائي؛ الذﻱ سامه أسقفًا وهو في حوالي الثلاثين من عمره. ارتبط اسمه بالقديس أغناطيوس الأنطاكي الذﻱ توقف وهو في طريقه إلى روما للاستشهاد في محطة سميرنا، فاستقبله بوليكاربوس بتكريم لائق كمعلم عظيم ومعترف ينضم ضمن طغمة شهداء الكنيسة الأولى.
وقد لحقه هو بعد حوالي ٤ سنوات ؛ مقدمًا حياته ذبيحة شهادة حية للمسيح ، عندما طُلبت منه شهادة الدم. وبوليكاربوس هو الذﻱ اهتم بجمع رسائل أغناطيوس الأنطاكي، في ثبات ممجدًا الله بلا حدود؛ وكأنه صخرة لا تتزعزع، متقدمًا للاستشهاد على نفس نسق سابقيه… كذلك كتب رسالة صارت هي أقدم وثيقة استشهاد وأول عمل كنسي موثق عن أعمال الشهداء Acta martyrum.
حُوكم معاقبًا من أجل إيمانه سنه ١٥٥م وكان عمره حوالي ٨٦ عامًا. ولما أتت ساعه استشهاده… طلب منه الوالي أن يحلف بحياة قيصر ويلعن المسيح حتى يطلقه؛ لكنه أجاب (لقد مضت ستة وثمانون عامًا أخدم فيها المسيح، وشرًا لم يفعل معي قط، بل في كل يوم أقبل منه نعمة ومراحم جديدة؛ فكيف إذن أجدف على ملكي الذﻱ خلصني وفداني).
ثم طلب بوليكاربوس أن يتركوه للصلاة ولطلب المعونة؛ حيث قدموه للحرق والافتراس، لكنه كان واثقًا وموقنًا أن مسيحنا سيعضده ليحتمل شدة حرق النار وعذابات الوثاق… مقدمًا ذاته ذبيحة تُشوىَ على حطب مذبح الاستشهاد في شركة كأس آلام الابن الوحيد. فقدموه مربوطًا بالحبال؛ وتأهل ليكون في عداد شهداء ومساهمي كأس مسيحنا لقيامة الحياة الأبدية بدون فساد، وصار ذبيحة مقبولة . كخبز يشوىَ وذهب وفضة تصفى؛ موضوعة في بوتقة تتنسم منها رائحة بخور عطر الثبات في الأمانة للمسيح المخلص.
وقد جمع الشعب رماد رفاته الثمينة، ككنوز أكثر من الحجارة الكريمة، الأسمى من الذهب، وأودعوها مكانتها اللائقة، في عبادة خاشعة ، وسط دموع الفرح والحبور، معيدين ليوم ميلاده في السماء، ولتذكار خروجه ظافرًا غالبًا منتصرًا على آلام هذا الزمان الحاضر؛ بلقاء المخلص وجهًا لوجه.
لقد صارت حياته علامة ودرسًا عمليًا ، كمعلم رسولي وأب للمسيحين في أسيا ، أرسل رسائل يكشف فيها عن حالة الكنيسة البكر بأوروبا، اتسمت بغزارة حكمتها العملية، وتعكس صوت ابن الرعد معلمه، لتدافع وتشرح بنود الإيمان المسيحي الثالوثي، واتباع الاقتداء بحياة الرب؛ إلى جانب بعض التدابير التنظيمية في الكنيسة الأولى.
لقد كان بوليكاربوس الشهيد آخر شهود العصر الرسولي، وشهد له القديس إيريناؤس بأنه كان معلمًا له وجلس عند قدميه. لذا سُمي بمعلم أسيا الرسولي وبالشيخ المبارك الشهيد، لمحبته للتعليم الصحيح والتقليد الثابت.. وكذلك لدوره الفكرﻱ الهام والرائد، ولكتاباته المبكرة في الأدب المسيحي الأول؛ وأيضًا لذهنه المؤسس في الله (كصخرة).
ويكفينا انتخابه أسقفًا من الرسل وملازمته ليوحنا اللاهوتي التلميذ الذﻱ أحبه يسوع وأيضًا ملازمته لكل من أغناطيوس أول أسقف لأنطاكية بعد معلمنا بطرس الرسول؛ ولتلمذته لإريناؤس أسقف ليون وأبو التقليد الكنسي. فقد عاش حياته كلها في سيرة إنجيلية وتعليم سليم، وفي شيخوخته كابد الاستشهاد بمجد وشرف عظيمين، فتارةً إلتهمتة النيران؛ وتارةً أخرى ضُرب برُمح حتى جرى دمه مطفئًا وقود اللهيب، وكنيستنا تذكره في ذكرى استشهاده ٢٩ أمشير؛ وتطلب بركته وصلواته عنا عند إلهنا القدوس العجيب في قديسيه.