تتوجّه إلينا كلمة لها الوقعُ المدهش والمؤثر على حياتنا :” كونوا قدّيسين ، لأني أنا الربّ الهكم قدّوس ” (أح 19 : 2) . الواقع ، أنّ هذه الدعوة نفسها تتكرّر في أسفار الكتاب المقدّس كلّها ، فيكتب القدّيس بطرس في رسالته الآولى : ” كما أنّ الذي دعاكم هو قدّوس كذلك كونوا أنتم قدّيسين في سيرتكم كلها ” (1 بط 1 : 15 ) . ويتضمّن الخطاب على الجبل الدعوة نفسها : ” كونوا أنتم كاملين ، كما أنّ أباكم السماويّ كاملٌ ” ( متى 5 : 48) ، في حين أنّ القديس لوقا ينقلُ إلينا كلمة مماثلة قالها الربّ : ” كونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم ” ( 6 : 36) .
العبارات تتعدّد ، والصيغ تتبدّل ، إلاّ أنّ المفارقة ، التي تفرض نفسها على الإنسان ، لا تتبدّل : فالذي هو ” مثلّث التقديس ” يريد أن تكون قداسته قداستنا ، ويريد أن نقاسمه هذه القداسة . والله القدّوس أراد أن يبدأ قصّة حبّه لنا بهذه المقاسمة . فكتابُ سفر الأحبار لا يتردّد في أن يحثّنا على أن نكون قدّيسين ، وهو يحدّد المبدأ الأساسيّ لذلك : ” لأني أنا الربّ إلهكم قدّوس ” ( 19 : 2 ) . وإثرَ هذه الكلمات ، يحثّنا الكتاب نفسه بكلمات أخرى تفوقُ الآولى وضوحـــًا : ” تقدّسوا وكونوا قدّيسين ، لأني أنا الربّ إلهكم . واحفظوا فرائضي واعملوا بها : ” أنا الربّ إلهكم مقدّسُكم ” (أح 20 : 7 – 8 ) .
عبارة ” أنا قدّوس ” هي بداية ونهاية كلّ صلاة وكلّ سعي إلى الله . فعندما نودّ أن نقول إنّ الله هو حقٌّ وعادل وصالح ، نستطيع الإستناد ، بفضل القياس ، إلى آثار الحقيقة والعدل والصلاح كما هي ظاهرة بين البشر . أمّا القداسة ، فهي ليست فكرة لها اصلها في الإنسان ، بل إنها تتحدّد بالعودة إلى مَن هو اللامُدرك القدّوس ، إذ إنّ قداسة الله لا تُماثل أيّ تصوّر مسبق للقداسة : إنها ذاتيّة الله ، ولا مجال أمامنا لمعرفتها إلاّ بإنفتاحنا على ما كشفه الله لنا ، هو المثلّث التقديس . ولأن ” قداسة الله ” هي جوهر ألوهيّته الخاص ، فإنها تشير إلى ” صميم كيانه ” . فالقداسة هي الله حقّا لأن الله هو الله .
سفرُ الأحبار لم يخطئ السبيل ، إذ إنّ الكناية ” أنا هو القدّوس ” ، ليست في الواقع تحديدًا . فالقول إنّ الله هو قدّوس لا يعني أنه يحدّ نفسه في تصوّر معيّن ، كما هو الحال بالنسبة إلى تعريفات الكمال الخُلقيّ . فقداسة الله ، في نظر البشر ، كانت وستكون دومــًا أمرا مفاجئا ، خَبِره القدّيس بولس والقدّيس بطرس ، وكذلك الشابّ الغنيّ في الإنجيل ( مر 10 : 17 و 22 ) . فهؤلاء كانت لديهم المعرفة الكاملة للكمال الخلقيّ بحسب العهد القديم ، في حين أنّ الشاب الغنيّ ، الذي كان يعدّ الخيرات الماديّة ثوابــــًا لكماله الخلقيّ ، تبلّغ الدعوة المفاجئة ، لبيع ممتلكاته والسير وراء يسوع الناصريّ . وهناك أيضا أشعياء النبيّ ، هو أيضا اختبرَ تلك ” الدعوة المفاجئة ” : فالله المثلّث التقديس يدخل بشكل مفاجئ في حياة النبيّ . إنه يدخل بلا أيّ مقابل ، بصورة جديدة تمامــا ، ومن دون أن يكون منتظرا على الإطلاق . وردّة فعل اشعياء : ” ويلٌ لي ، لقد هلكتُ ” (اش 6 : 5 ) . إنها كنايةٌ عن صرخة حادّة حاولت أن تعبّر عن الهاوية التي لا تُردَم بين الملء والعدم ، بين القدّوس والخاطئ . فالربّ الإله هو الذي لا مثيل له في قداسته ، والإنسان الذي يعتقد بأنه مساو ٍ ، في أمر ما من الأمور ، لذلك الذي اسمه قدّوس ، لم يُدرك بعد أنّ واقعه الصميم هو عدم ، وهذا الإنسان لم يُدرك أنه العاجز أمام الكليّ القداسة . ليس أمام الإنسان إلاّ أن يترك الله يحرقه بقداسته كما حرقت اشعياء .