في إنجيل متّى ( 25 : 31 – 46 ) ، يتكلّم عن وصف دراميّ للدينونة العامّة ، إضافة إلى مساعدة الفقراء ، وهذا من خاصيّة الإنجيليّ متى . وهذا الوصف يجد مكانه بالأحرى في إنجيل لوقا ، الذي غالبًا ما يتحدث عن الفقراء والأغنياء ، أي عن الواقع الاقتصاديّ الإجتماعيّ . وبما أنّ القدّيس متّى يتحدّث أيضا عن هذا الموضوع ، على الرغم من اهتماماته الكنسيّة والعقائديّة ، فهذا يثبت أنّ تلاميذ الربّ القائم من الموت كانوا يحيون بمقتضى الوصيّة الثانية على صلة ٍ وثيقة بالوصيّة الآولى .
في إنجيل متّى ، وفي النصّ ا لذي هو موضوع التأمّل بالذات ، تتعارض المعطيات الأساسيّة : من ناحية يبرز الربّ الممجّد ، في صورة ” الراعي ” ، وهو يحاكم الأمم ، فاصلا الخراف عن الجداء . ومن ناحية أخرى ، نرى ابن الإنسان في ثياب الفقير ، الذي يتضوّر اليوم جوعـا ، يقبع في السجن ويرزح تحت وطأة المرض . فأن يولد الربّ فقيرًا ، ويعيش محرومًا ويموت في العدم التامّ ، هو أمر فيه الكثير من العِظم والجمال ، لمَن كان ذا فهم بشريّ أكيد . فمنذ زمن بعيد ، وأيضا في قلب مجتمع الإستهلاك ، أدرك الإنسان تفاهة الغنى وما يتضمّنه من خواء وعبوديّة .
إن صفحة إنجيل متى ، التي لها شعبيّتها حتى في المجتمع العلمانيّ ، تُظهر لنا الربّ القائم من الموت في مجد أبيه . الربّ القائم يمتلك قدرة الروح ويملأ السماء والأرض . فثروات الخليقة كلّها تخضع له ، لأنه سيّد التاريخ البشريّ ، مبدأ كلّ موجود وغايته . ” إني أوليتُ كلّ سلطان في السماء والأرض ” (متى 28 : 18 ) . ولأن هذا السلطان هو إلهيّ حقا ، فإنه لا يمكن المطابقة بينه وبين أيّ سلطان هو من طينة سلطان البشر المزعوم . فالله ، الغنى الفائق ، هو الحبّ الذي يجود بذاته ، وسلطانه هو سلطة ، غايتها أن تجعل البشر خالقي حياتهم الخاصّة ومشاركين في فعل خلاصهم ، على ما رآه أباء الكنيسة اللاتينية. إلاّ أن الربّ القائم من الموت لا يهدي التلاميذ ، الذين كانوا ينتظرون بالأولى أحياء مملكة أرضيّة ، لا الثروة ولا تحسين مستوى معيشتهم . فالربّ القائم هو سيّد فقير .
من شأن حياة المرسلين أن تكون الصورة الصادقة لحياة الربّ ، أن تكون سيرًا فصحيّا دمغه غبار الطريق ، والاستقبال المشكوك في أمره ، والشعور المستديم باللامبالاة والعداوة ، والخوف الذي تثيره البشرى في حاملها . أمّا نحنُ فإننا نعلم أنّ إعلان قيامة الربّ هو قضيّة موت أو حياة للأمم كلّها . لكننا نظنّ ، في الوقت عينه ، بأننا نفتقد الوسائل البشريّة الملائمة لنفرض ذواتنا بما للإنسان من قوّة وفاعليّة . ففي وسط المسيحيّة وصلبها ، نزدادُ تحقّقا بكثير من الوضوح كيف أنّ الكنيسة ، بالرغم من ضعفها البشريّ الفطريّ ، في إناءٌ من خزف ، تحمل ” نور بشارة مجد المسيح ” (2 كور 4 : 4 ) ، قدرة القائم من الموت ، حبّه الذي لا حدّ لغناه .
أمّا ما تقوله الأناجيل عن ” فصح الربّ الكبير ” ، فهو يُثبت فقر الربّ القائم لرسله . فالربّ لا يسعى مطلقا إلى فرض حضوره الإلهيّ على أورشليم ، ولا يعمل ، بالطريقة عينها ، على إستمالة مَن تحدّوه بأن ينزل عن الصليب ، ولا يحاول بمجد انتصاره الفصحيّ ، هداية مدينة داود . إنّ الربّ يقيمُ في وسط تلاميذه ، يستبقهم على الطريق ويتبعهم إلى حيث يعملون كرعاة . وفي هذا الإطار من التصرّف ، يعلن أمامهم أنه صاعدٌ إلى الآب (يو 20 : 17 ) ، ليرسل إليهم ما وعد الآب به . وهو حثّهم على إنتظار مجيئه الثاني واثقين ، في الزمن الذي عيّنته سلطة الآب .
اليوم أيضا ، يجعلنا الربّ نعيش في فقر شعب الله المنتظر ، في إنتظار هِداية الشعب المختار ، في الفقر الذي تكشفه الحاجة إلى تسوّل الإيمان للكثير من الأمم والثقافات ، التي لم يُعرف فيها الربّ حتى الساعة ، أو لم يُعرف بشكل ملائم .