إنّ قراءة سطحيّة لخطبة يسوع عن الأواخريّات ، أو استماعـــًا لها ، يعطيان بسهولة الانطباع بأنّ يسوع ، من وجهة نظر التسلسل التاريخيّ ، قد ربط نهاية أورشليم مباشرة ، بنهاية العالم ، وبخاصّة حين نقرأ عند متى : ” وعلى الأثر ، بعد ضيق تلك الأيّام ، تظلم الشمس … حينئذ تظهر في السماء علامة ابن البشر …. ” (متى 24 : 29 – 30) .
ويتأكّد هذا الربطُ المحكم ، في التسلسل التاريخيّ المباشر ، بين نهاية أورشليم ونهاية بكامله ، في بعض الآيات اللاحقة : ” الحقّ أقول لكم : لن يزول هذا الجيل حتى تحدث هذه الأمور كلّها ” (24 : 34).
يبدو ، من النظرة الآولى ، أن لوقا وحده هو الذي لطّف هذه العلاقة . فنقرأ عنده : ” فيسقطون قتلى بحدّ السيف ويؤخذون أسرى إلى جميع الأمم ، وتدوسُ أورشليم أقدام الوثنيّين إلى أن ينقضي عهد الوثنيّين ” (21 : 24 ) .
فبين تدمير أورشليم ونهاية العالم تندرجُ ” أزمنة الوثنيّين ” . أ ُخِذَ على لوقا أنه بذلك قد نقل محور الأناجيل الزمنيّ ورسالة يسوع الأصليّة ، فجعلَ من نهاية الزمن زمنـــــا وسطيّا ، مستنبطا هكذا زمن الكنيسة على أنه مرحلة جديدة من تاريخ الخلاص . لكن ، إذا أمعنّا النظر عن قرب في الأمر ، اكتشفنا أن ” أزمنة الوثنيّين ” تلك قد أعلن عنها أيضا متى ومرقس بكلمات مختلفة وفي مكان آخر من خطاب يسوع .
إنّ نواة رسالة يسوع الأواخريّة تشمل إعلان عن زمن للأمم (الوثنيّين ) ينبغي، في خلاله ، نشرُ الإنجيل في العالم كلّه وإلى جميع البشر : بعدئذ فقط ، يستطيع التاريخ بلوغ غايته .
زمنُ الوثنيّين هذا ، هو زمنُ الكنيسة .. زمن آلام المسيحيّيين والكنيسة في العالم كلّه . إنّ دعوة المسيحيّين إلى الهرب من أورشليم ، في وقت تدنيس الهيكل ، غير محدّدة بدقّة . لا يمكن الشكّ في واقعيّة هذا الهرب إلى مدينة ” بلاّ ” وتاريخيّته . لكن ، هناك المعنى اللاهوتيّ الكامن الذي لا يجدرُ بنا أن نقلّل من أهميّته وقيمته : إنّ عدم المشاركة في الدفاع المسلح عن الهيكل، الذي تحوّل إلى قلعة ومشهد للأعمال العسكريّة الوحشيّة ، يتلاءم تماما والخطّ الذي تبنّاه إرميا لدى حصار البابليّين لأورشليم (إر 7 : 1 – 15 ؛ 38: 14 – 28).
يشير الألماني الكاثوليكي اللاهوتي الشهير و المفسّر يواكيم غنيلكا ، بنوع خاصّ ، إلى علاقة هذا الموقف بنواة رسالة يسوع فيقول : ” من غير المحتمل قطعــًا ، أنه كان بإمكان المؤمنين بالمسيح المقيمين في أورشليم أن يشاركوا في الحرب . فالمسيحيّة الفلسطينيّة هي التي نقلت الخطبة على الجبل . بالتالي ، كانوا يعرفون وصايا يسوع المتعلّقة بمحبّة الأعداء وبرفض العنف . ونعرف ، بالمقابل ، أنهم لم يشاركوا في الثورة على الإمبراطور هادريانوس ” .
هناك عنصرٌ آخر أساسيّ في خطاب يسوع الأواخريّ ، هو التحذير من المسحاء الكذبة ، ومن الهذيان الرؤيويّ . بهذا العنصر ترتبط الدعوة إلى التقشّف واليقظة ، التي توسّع فيها يسوع أيضا في بعض الأمثال ، وبخاصّة في مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات (متى 25 ) ، وكذلك في كلامه على البوّاب اليقظ . هذه الكلمات عينها تشير بوضوح إلى ما ينبغي لنا أن نفهمه من كلمة ” يقظة ” ، التي يفسّرها الأب بنديكتوس في كتابه ” يسوع الناصريّ ج2 ” ويقول : اليقظة ، ليس الخروج من الحاضر ، والقيام بتنظير حول المستقبل ، ونسيان واجب اللحظة الراهنة – بل على العكس : إنها تعني أن نقوم ، حيث نحن ، الآن ، بالعمل الصحيح ، كما يجب أن نقوم به تحت نظر الله .
إن رسالة يسوع وخطابه حول النهاية ، كما يذكرها الإنجيليّين ، هي لحثّنا على اليقظة والسهر والإنتباه والإدراك والحكمة لقراءة أحداث العالم ، ليس من منطلق العِرافة والتنجيم ، بل من منطلق تاريخ الله الخلاصيّ ، وكلام يسوع . هناك علاماتٌ على المسيحيّين أن يكونوا على أهبة الإستعداد بالنسبة لمستقبلهم الخاصّ . الإنجيليّ متّى يسمّيها ” بدءُ المخاص ” ! أي إنها ولادة عسيرة للعالم . إنها ولادة بآلم وضيق وصليب ، الذي هو العلامة المميّزة للذي يتبع يسوع (كأنّ الصليب هنا أصبح هو ” القدَر ” ) ؛ لكنّه ، بالنسبة لنا ، هو القدر المغاير لأقدار الأساطير اليونانيّة ! إنه قدرٌ ليس أعمى وغاشم من إله ٍ مجهول الهويّة لا نعرف ما يخبّأه لنا . لا بل إننا نعرفُ أنّ ما بعدَ الآلام ، هناك ” قيامة ” .
لا تخافوا ، فإنّ الربّ معكم دائمـــًا . هناك قتلى وضحايا أبرياء ! نعم ، وهذا جدّ طبيعيّ . فلقد طال المسيحيّين الآوائل والقدّيسين من بعدهم ، وإلى الآن نرى القتل والذبح . ولهذا ، فتبشيرُ الوثنيّين هو واجب التلاميذ ، بفضل المسؤوليّة الخاصّة التي أيقن القدّيس بولس أنها ألقيت على عاتقه كعبء وكنعمة في الوقت عينه . نفهم هنا ، أن زمن الوثنيّين هذا ، ليس زمنـــًا ماسيويّا حقيقيّا (بنديكتوس السادس عشر ) ، بمعنى وعود الخلاص العظيمة ، بل إنه لا يزالُ زمن “هذا التاريخ وآلامه ” ، ولكنّه أيضا وبطريقة جديدة ” زمن الرجاء ” : قد تناهى الليل واقترب النهار ( رو 13 : 12 ) . إننا ندركُ صدق رسالتنا وحقيتها بآلامنا وبأننا في الطريق الصحيح : لا ترهبوا … إنّ الفرجَ قريبٌ بقوّة الربّ .