" ….. لكن واحدا من الجنود طعنه بحربة في جنّبه ، فخرجَ لوقته دمٌ وماء " (يوحنّا 19 : 34 )

” إنّ الله حاضرًا في موت يسوع بكلّ قوّته “

Share this Entry

لقد قام الجنديّ ( وذهبَ بعضهم إلى القول بأنّ هذا الجنديّ قائد المئة واسمه لونجينوس الذي رأى عجائب المسيح ) بحركة لم تكن ضروريّة _ إذ إنه فعل هذا تكميلا لوظيفته لأنه كان أحد الجنود المأمورين بكسر سوق المصلوبين . وكأنه بدافع الفضول شاء أن يتحقّق من موت يسوع .

يقول الأطباء ، إن لدى المصلوب البائس ، يتبقّى دم في القلب ، وان بفعل التعليق بالذات ، يتجمّع سائل مصليّ حول القلب ، بحيث يصبح بوسع ضربة رمح أن تجعل هذا السائل الشبيه بالماء يجري . لكن ، يوحنا لا يسجّل هذه التفاصيل الطبيّة البعيدة عن نظرة اللاهوتيّ ! – هي محتملة من وجهة نظر فيزيولوجيّة –  لكي يقصّ علينا حدثا عابرًا : لا ، فالأمر يتعلّق بيسوع ! لذا ، يرى يوحنا ، في هذا الحدث ، معنى لاهوتيّا عميقا . هناك شهادة احتفاليّة ( … الذي رأى شهد ، وشهادته صحيحة ، وذاك يعلم أنه يقول الحقّ لتؤمنوا أنتم أيضا ” ) .

لندع كلّ الشروحات والتفاصيل حول النصّ وكتابته ، وكيف كُتبْ … الخ . ما يهمّنا الآن هو ماذا يخفي يوحنا من عمق كبير وراء هذه التفاصيل ” الدم والماء “ ؟!.

لقد رأى يوحنا ، في طعنة الرمح ، إتمام قول نبويّ ، كما استشفّ سرّا ، بشكل واضح ، في الدم والماء الجاريين من جنب المسيح . ما هي هذه الرمزيّة ؟ آباءُ الكنيسة أنفسهم تردّدوا : كثيرون منهم فكّروا في سرّ الفداء ، إذ ان الدم ، لدى يوحنّا كما في مجمل العهد الجديد  ، هو التعبير عن الثمن المدفوع ، الثمن الذي دفعه يسوع عن الخطايا . أمّا الماء ، فقد كان يعبّر عن العماد ، ذهب بعضهم إلى التوضيح بأنه دلالةٌ على الإفخارستيّا والعماد ، لا بل على سائر الأسرار .

وهناك عددٌ من آباء الكنيسة فكّر في الكنيسة ، وهي تخرجُ من جنب المسيح . بينما آخرون رأوا إنها ” النعمة ” ، أو ” الروح ” الذي يخرج من المسيح ؛ وكان يسوع ذاته ، بحسب إنجيل يوحنا ، قد اختصّ هذه الكلمة من الكتاب المقدّس  : ” ستجري من جوفه أنهار الماء الحيّ ” ( يو 7 : 38 ) . في كلّ الكتاب المقدس ، وفي إنجيل يوحنا ، نرى أنّ الماء هو رمزُ الروح ورمزُ الحكمة والنعمة والحياة الإلهيّة ، وبهذا المعنى يكون قد تفجّرت أنهارُ ماء الحياة من جسد المسيح المائت (قد نرى خلف الجسد المائت هذا سرّ القيامة وتأكيدًا بأنّ جسد الربّ هو القيامة ! ) .

موضوع الماء والدم هذا ، يجدُ ما يقابله ، بشكل ٍ مدهش ، في الديانة اليهوديّة . هناك ” هجّادة ” من الكتابات الرابينيّة تنقلُ لنا بأنّ موسى ، حين ضرب الصخرة مرّتين بعصاة ، أخرجَ منها دمًا وماء معا . ولا يخلو هذا التقليد المتأخّر من غرابة . إلاّ أنّ هذا التقارب أيضا يثير الدهشة . ومن غير المحتمل أن تكون الكتابات الرابينيّة قد قلّدت الإنجيل ، إذ ان لنصوصها بُعــــدًا مختلفا جدّا : ذلك أنّ الدم الذي خرج من الصخرة ، يرمز إلى ” العقاب ” الذي استحقّه موسى حين قال كلمة قاسية بحق الإسرائليّين . مع ذلك ، إذا كان التطبيق مختلفا ، فهناك واقع لا مناص منه ، وهو أن من صخرة موسى خرج ” دم وماء ” ! ومما لا شكّ فيه ، هو أن المسيحيّين الأولين رأوا في موسى الذي رافق الشعب المختار في البريّة ، نموذجا للمسيح  (راجع 1 قور 10 : 4 ) .

إنّ موضوع الدم والماء لدى الإنسان يعكسُ مفهومــــــا قديمــا وساذجــــا بشأن “الفيزيولوجيّة ” . هناك ميدراشٌ رابينيّ آخر ” اللاوي الكبير ” يقول بأنّ الإنسان مكوّن بالتساوي من ماء ودم : فإذا كان فاضلا ، تتوازن العناصر فيه ، وإذا أخطأ ، فهناك عنصرٌ سيتغلّب : إذا كان ماءً فسيصبحُ مستسقيا ، وإذا كان دمـــا فسيكون أبرص . مثل هذه الفيزيولوجيّة القديمة تسمحُ بتطبيقات كثيرة ، ولنا منها تطبيق على صخرة موسى ، غير أنّ تطبيق يوحنّا يفوقه إلى حدّ كبير ، وما يقصده يوحنا ويريده مغاير تمامــا !.

لنرى أخيرًا ما يقوله لنا البابا بنديكتوس السادس عشر في شرحه لمعاني ” الدم والماء ” : “خرجَ دمٌ وماء من قلب يسوع المطعون . وعبر العصور ، بحسب كلمة زكريّا ، توجّهت الكنيسة بنظرها نجو هذا القلب المطعون ، فوجدت فيه نبع البركة المشار إليه مسبقا في الدم والماء . إنّ كلمة زكريّا (12 : 10)  تدفعنا إلى البحث عن فهم أعمق لما حصل هنا . نعثرُ على أوّل درجة من مسار الفهم هذا في رسالة يوحنا الآولى التي تتناول بقوّة الحديث عن الدم والماء ، اللذين خرجا من جنب يسوع : ” هذا الذي أتى بالماء والدم : يسوع المسيح ، لا بالماء فقط ، بل بالماء والدم . والروح هو الشاهد ، لأنّ الروح هو الحقّ . ومن ثمّ فالشهود ثلاثة : الروح والماء والدمّ ، وهؤلاء الثلاثة على اتفاق ” ( 1 يو 5 : 6 – 7 ) .

إنّ يسوع لم يأت ِ بالماء وحده ، بل بالدمّ أيضا … ما معنى هذا ؟  يفترض بنديكتوس السادس عشر ، من دون شكّ ، أنه يلمّح إلى تيّار فكريّ ، لم يكن يعطي قيمة إلا للعماد ، ويضعُ جانــبا الصليب . وقد يعني أيضا ، أنّ الإهتمام كان منصبّا فقط على الكلمة ، على العقيدة ، على الرسالة ، وليس على ” الجسم ” ، على جسد المسيح الحيّ ، النازف على الصليب . هذا يعني أن الجهد كان منصبّا على خلق مسيحيّة من الفكر والآراء ، تُلغى منها حقيقة الجسم : الذبيحة والسرّ .

أرى أيضا ، أنّ المعاني الكامنة للماء والدم والروح (خروج الدم هو العهد الإلهيّ الذي أتمّه الله الآب للبشريّة بواسطة يسوع ،  والماء هو سرّ الولادة الجديدة والخلق الثاني والخلاص ، والروح هو الله ذاته الذي أكملَ كلّ شيء في ذبيحة الصليب ) ، إنه سرّ الثالوث يظهرُ أمام مَن طعنه (الوثنيّة البعيدة عن الله ) ، سرّ الثالوث الإلهيّ ظهرَ كصعقة قويّة للفكر اليونانيّ الذي ك
ان يرى الله لا يتألّم ولا يهتمّ جالسًا في علياء سمائه لا يتحرّك . إنه كشفٌ لغرابة الله . ولا ننسى أيضا ، الكنيسة عروس المسيح تكوّنت من جنبه مائتـــا ، كأنه آدم آخر راقد ، وكأنما حوّاء أخرى . وتذكّرن الطعنة وخروج الماء والدم ، وقوّة روح الله ، إلى مزج الماءُ بالخمر في تقديس الكأس (التحوّل الجوهريّ ) .

” إنّ الله حاضرًا في موت يسوع بكلّ قوّته  ” 

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير