لم يكتف الآباء التفكير بمقولة سفر التكوين بأن الإنسان مخلوق “على صورة الله”. بل توقفوا أيضًا للتفكير بشأن “فلنخلق الإنسان”، أي على التعبير في صيغة الجمع. لقد فهم الكثيرون هذا التعبير كـ “جمع الجلالة” وكأن الله يخاطب نفسه مثل ملك غظيم بصيغة الجمع. إلا أن هذا التفسير غير مناسب لأن هذه الصيغة لم تكن اعتيادية في اللغة العبرية[1].
وقام آخرون بتفسيرها كبقايا وثنية من تعدد الآلهة، وآخرون أيضًا بتفسيرها كخطاب يوجهه الله إلى ملائكته. إلا أن كل هذه التفاسير بدت ضعيفة وغير لائقة بالنسبة للعديد من الدارسين[2].
هذا وقد قدم العديد من الآباء قراءات لهذه الآية نابعة من الوحي الذي نلناه بيسوع المسيح، ولذا رأوا في هذه الآية حوارًا ثالوثيًا، وهو تفسير دعّموه انطلاقًا مما يلي: أي خلق الإنسان كواقع بالجمع وليس كواقع فردي: “ذكرًا وأنثى خلقه” (الآية 27).
وقد فضّل بعض الآباء التفسير المسيحاني (الكريستولوجي)، فقالوا بأن الله خلق الإنسان بحسب صورته الكاملة، أي الكلمة-المسيح[3]. فنحن “صورة صورة الله”[4]. لقد خلق الله الأرضي (هَ أَدَم)، الإنسان الأول، على صورة الرجل-الله يسوع المسيح (راجع كول 1، 15) ومسيرة الإنسان إنما هي مسيرة لكي يضحي مماثلاً لهذه الصورة الإلهية (راجع روم 8، 29).
إلا أن إحدى التفاسير الذكية التي لا تلغي السابقة بل تكملها، هو التفسير الذي يرى في جمع “فلنخلق الإنسان” دعوة من الله إلى الإنسان لكي يكون شريكه في خلق إنسانيته[5]. فالله يطلب إلى الإنسان أن يُسهم في خلق الإنسان! الإنسان ليس مخلوقًا فحسب، بل يجب أن يُسهم في إكمال خلق ذاته ليصل إلى “مثال” الله. يجب أن يضحي شريك ومعاون الله من خلال أنسنة إنسانيته. الكائن البشري هو هبة ومَهَمَّة في آن. كخليقة خُلقَت حرة، لم يرد الله أن يُخلق الإنسان كمشروع قد تمّ، بل شاء أن يخلقه كخليقة حرة قادرة أن تختار الحب الذي خلقها. يكتب في هذا الصدد أندريه وينان:
“عندما قام الله بدوره، بقي دور يجب تتميمه. من سيقوم بذلك؟ من سيحقق غاية ذلك الذي خلقه الله على صورته؟ من سيسمح للصورة أن تضحي مماثلة، مؤنسنًا ما يجعل الإنسان شبيهًا بالحيوانات؟ أليس الإنسان عينه؟ فبقوله ’فلنخلق‘ بالجمع، الله لا يتكلم مع ذاته. بل يتوجه إلى البشر الذين يخلقهم بكلمته – وفي إطار السرد، يتوجه إلى القارئ – لكي يدعوهم لمعاونته في عمله الخالق من خلال ’خلقهم‘ حتى يصل هذا الخلق إلى ملئه”[6].
هذا مشروع حب الله المجنون. فالله يُفسح في الحب مجالاً لحرية أخرى تستطيع أن تقول له نعم وتستطيع أن تقول له لا. وبما أنها تستطيع أن تقول “لا”، يضحي لـ “نعم” هذه الخليقة قيمة ووزن. هذه هي فسحة “الدراما الإلهية” كما يسميها فون بالتازار، مسرح الحرية التي لا تُمثل على خشبة المسرح، بل حيث تختار الخلاقة التي لن تفنى من بعد مصيرها الأبدي: الاتحاد بالله من خلال الـ “نعم” المريمي، أو الرفض من خلال الـ “لا” للحب.
[1] Cf. E. Bianchi, Adamo dove Sei? Commento esegetico-spirituale ai capitoli 1-11 del libro della Genesi, Qiqajon, Magnano (BI) 19942, 135.
[2] Cf. A. Wénin, Da Adamo ad Abramo o l’errare dell’uomo. Lettura narrativa e antropologica della Genesi. I. gen 1,1–12,4, EDB, Bologna 2008, 27; J.L. Ruiz de la Peña, Antropologia teologica fondamentale, Borla, Roma 20102, 35.
[3] Cf. Atanasio, L’incarnazione del Verbo III, 11.13.
[4] Cf. Ireneo, Contro le eresie, V, 16, 2; R. Cantalamessa, Dal kerygma al dogma. Studi sulla cristologia dei Padri, Vita e Pensiero, Milano 2006, 153-214; A. Orbe, Antropología de san Ireneo, Biblioteca de Autores Cristianos, Madrid 1969, 107-117.
[5] Cf. A. Wénin, Da Adamo ad Abramo, 29-33.
[6] Ibid., 29.