لعل جميعنا لمس حجم الهدر الذﻱ نصرفه أمام هذه الأجهزة بميلها الاستحوازﻱ الكامن خلف بناء برج بابل، وخلف الرغبة في التملك والسيطرة واللهو والهروب من الواقع!! فكم من أوقات وأعمار تُهدَر؛ نصرفها في لغو وثرثرة ومتابعات بائسة؟! وكم من ألعاب خطيرة تثير الغرائز والعنف؛ وتجعل العقول مأسورة بمنطقها ؛ مسبيَّةً ومسلوبة الإرادة، بلا تحديد وضبط لأوقاتها!! وكم من صور ومخيلات وعلاقات سلبية ساقطة تنخُر المدارك بعتامتها وغَيّها، على طريقة وشكل الخطيئة الأولى!!
إن هذا الإدمان صار حالة سقوط وأَسْر للفكر والقلب، ينجذب له الإنسان بدوافع عديدة لتعزيز الأنا والفضولية، فتجعله أنانيًا ذاتيًا وغير مؤهل للعطاء العملي وعمل الخير، ولا للتحرك على الأرض؛ من أجل بناء نفسه والآخرين.
ولعل ما قاله معلمنا بولس الرسول في نشيد المحبة (١كو١٣) يأتي في سياقنا هذا ؛ لأنه إن كنت أتواصل مع ملايين الناس عبر الإنترنت (فيسبوك وتويتر وسكايب وواتس أﭖ) Facebook, Twitter, Skype, WhatsApp وليس لي محبة؛ فلست شيئًا… إذ كيف يتسنَى لي أن أتواصل مع كل هذه الأعداد؛ بينما صلتي الشخصية منقطعة ومعطلة مع ربي ومخلص نفسي؟!! فهل أتواصل أيضًا معه؟! وهل أرسل له Email لحظيًا ورسالة سهمية قصيرة وطويلة؟! وهل ألتقي به على الإنترنت الروحي السماوﻱ الواقعي لا الافتراضي؟! متى وكيف وأين يكون ذلك كذلك؟ وكيف نتواصل مع كثيرين؛ بينما لا نتواصل في وقت قَيِّم مع عائلاتنا!!
إذن متى نضع لائحة لإدارة حياتنا وأوقاتنا كي نتمم قانوننا، الروحي اليومي؛ فتقيم محبة الله فينا؟! ومتي نميز في اختيار الحسن والجليل والمُسِرّ، ونوظف الادوات فيما يبني نفوسنا حسب المقاصد الخلاصية؟!
إن الإدمان الالكتروني حالة فراغ وخواء وضجر؛ لا يمكن أبدًا للإنترنت أن يسدّ نافذتها بدون محبة الله والقريب. ففيها لا يمكن أن نتقدم للتناول ولا لحضور القداس؛ لأن حضورنا لا يمكن أن يتم عبر Cyber-Sacrament .
كذلك الإنترنت لا يسقي عطشانًا ولا يُشبع جوعانًا ولا يزور مريضًا ولا يعزﻱ حزينًا!! لا أقول ذلك تقليلاً من شأن هذه الإنجازات؛ لكني أقولها من أجل الاعتدال والتمييز، ليكون استخدامها بلا إفراط أو تهويل، لأننا مخلوقون لأعمال صالحة؛ وعلى صورة وشبه الثالوث القدوس، لا مخلوقون لنعيش في تصحُّر أمام الكمبيوتر ونعبد الآلة!!
عَلّنا نكون أحرص مَنْ يستفيد في توظيف هذه الأوعية للمعرفة ولخدمة البشر؛ لكننا في ذات الوقت، لا يمكننا أن نختزل الشريعة الإلهية لتبقى على ألواح حجرية في الآلات، بل نعيشها حية عاملة وفاعلة لخدمة الإنسان؛ دون استعباده وسرقة عمره في مسالك غير محسوبة؛ تتجه بنا صوب وثن صنمي حديث؛ يغمسنا في متاهات افتراضية لا حد لها، ويُنسينا واقع جاهدنا وخلاصنا وقانون طقسنا، وكذا عملنا في الفلاحة وافتقاد النفوس وخلاصها والانتباة إلى أنفسنا بالأكثر في الإنسان الباطن .
هناك منافع كثيرة نجنيها؛ لكننا لن نغضّ الطرف عن سلبيات كثيرة، فلن نغفل عشوائيات التفكير وانتشار الشطحات والبدع الهرطوقية والأخبار الهدامة المضادة؛ تحت الأسماء المستعارة الحركية، بالإضافة إلى الأحاديث الوهمية والتلاسُن السيئ، والصور والأقنعة التافهة والتلصص المكبوت والإشاعات… هذه جميعًا تجُرّنا لنستبدل ما هو أصيل بما هو مزيف، وما هو حق بأمراض ثقافية ونفسية لا مرجعية له… فالشيطان أيضًا ليس متفرجًا بل يجول يزأر ملتمسًا من يبتلعه؛ عبر كل هذه المخترَعات. لذلك ”فَلْيَحْذَرْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ لِئَلّا يَسْقُطَ“ (١كو ١٠ : ١٢).
إن ما يدور حولنا من إدمان صارخ سبق وجحدناه في معموديتنا عندما تعهدنا : ”أَجْحَدُكَ أيُّهَا الشَّيْطَانُ وكُلَّ أَعْمَالِكَ الشِّرِّيرَةِ وجُنُودِكَ الرَّدِيئَةِ“، لا بُد أن نُوفِّيه، ناظرين لكلمة الله؛ ولا نصلب وجوهنا كي يشترك الله في العمل معنا بكل عمل صالح، متمسكين بالحسن، موظِّفين الإمكانات في وضعيتها؛ لأنه حيث يكون كنزنا هناك يكون قلبنا، مبتعدين عن الأفعال الأثيمة وكل الأشياء التي لا توافق أو تتسلط علينا.
إننا لم نأخذ روح وفكر العالم؛ بل الروح الذﻱ من الله؛ لنعرف الأشياء الموهوبة لنا منه. لذلك الكنيسة عمود الحق وقاعدته تبصِّرنا حتى لا نلحق نحن بالعالم؛ لكن نجعله يلحق بنا، قارنين الروحيات بالروحيات؛ لا جسدانين معتزّين بأنفسنا؛ نفسانيين لا روح فينا.
لقد أعطانا الله وجهًا مرتفعًا متجهًا نحو السماء، ناظرين إلى ما هو فوق؛ من حيث يأتي عوننا، كي لا نحب العالم ولا تستعبدنا الأشياء التي في العالم.. أعطانا قامة مستقيمة منتصبة؛ كي نقوم ونمجد عظمته؛ ولا نتحول ناحيه آلهة غريبة مبتكَرة، تتطور في صورة أنماط حديثة خدّاعة،”كَي يَكُونَ المُزَكَّوْنَ ظَاهِرِينَ“ (١ كو ١١ : ١٩)، وكي لا تنحني قامتنا المستقيمة وتتُوه وسط كل هذا الخِضَمّ، بل نتجه حيث طبيعتنا السمائية والشبه الإلهي المغروس فينا.