يبدو وكأن معنيي كلمة "اخرح" (لِك لِكا) هما متناقضان: فالمعنى الأول يدعونا للدخول إلى أعماقنا، بينا الثاني يدعونا للخروج، ولخروج جذري، كما سبق ورأينا في تأملنا بدعوة إبراهيم. إلا أن التناقض ظاهري فقط. فهو يُفسح المجال للمفارقة التي تشكل القيمة الحقيقية للأمور العميقة والسامية. الدخول إلى الذات ليس دعوة للغرق في ذواتنا، في أنانا وأنانيتنا. الدخول إلى الذات هو دعوة للدخول لكي نكتشف من هو أسمى منا، دعوة لاكتشاف الله الذي يسكن وجودنا بصمت وحب. وهذا الأمر هو مسيرة ضرورية للقاء ذلك الذي يدعونا في ذواتنا أبعد من ذواتنا. نلج إلى ذاتنا لكي نكتشف الماء الحي الذي يفيض في قلبنا. وعليه، ما من تناقض، بل هناك استمرارية وتكامل في المفارقة. وقد أدرك القديس أغسطينوس معنى هذه المفارقة عندما أدرك أن الله "أعمق فينا من أعماقنا عينها" وهو في الوقت عينه، كغايتنا العليا "أسمى فينا من أسمى ما فينا"[1]!

ويشرح الفيلسوف مارتن بوبر أن "العودة إلى الذات هي في حياة الإنسان بدء المسيرة، المسيرة المتجددة دومًا. وهي مصيرية فقط إذا ما قادت إلى مسيرة: فهناك عودة عاقرة إلى الذات، لأنها تحمل فقط إلى نوع من التقوقع على الذات والانطواء على الذات"[2].

إذا كان الارتداد الأول هو اكتشاف لحياتنا الباطنية، فالارتداد الثاني هو اكتشاف أن حياتنا الباطنية تتحقق بانفتاحها على حياة تتجاوزها، وتتمثل بالعبور من ذواتنا بشكل تصاعدي نحو الله. ويتحدث القديس أغسطينوس عن هذه المسيرة في نص شهير إذ يقول: "لا تخرج إلى الخارج، بل ادخل إلى ذاتك: ففي الإنسان الباطني تقطن الحقيقة. وإذا اكتشفت أن طبيعتك متبدلة، فتجاوز نفسك. وتوجه إلى حيث ينعكس نور العقل"[3].

النص الأغسطيني يتألف من جزئين: الجزء الأول هو الولوج إلى الذات، فهم حياتنا الباطنية، لكي نعي أنها ليست الأساس، ومن هنا الجزء الثاني، الانفتاح على الكلمة، على النور الذي ينبع منه وجودنا. ومن هنا يدعون القديس أغسطينوس إلى اعتراف: "اعرف أنك لست أنت الحق، وإلا لما كنت لتبحث عن الحق!".

من هنا، وبالعودة إلى إبراهيم، الدعوة إلى الانطلاق ليست أمرًا اعتباطيًا تتوجه إلى وجوده، بل هي دعوة لتحقيق جوهر إنسانيته الكامن فوق إنسانيته! الولوج إلى الذات ليس غاية الوجود البشري، بل الله هو غاية الإنسان، والولوج إلى الذات ما هو إلا سبيل للقيام بهذه الخبرة لأن سر الله وسر الإنسان مترابطان، "فالإنسان يصل إلى ذاته فقط في الله، وفقط من خلال الوصول إلى ذاته يصل إلى الله"[4]. فالله لا نكتشفه مثلما نكتشف قارة جديدة أو أرض جديدة، الله حاضر هنا، هو عمانوئيل (راجع أش 7، 14)، هو الله معنا وفينا، يضع خيمته في قلوبنا وفي صلب بشريتنا (راجع يو 1، 14). "الله ليس في مكان ما، بل هو الآتي، وهو حاضر كونه الآتي"[5].

(يتبع)

 

[1] Cf. Agostino, Confessioni III, 6, 11.

[2] M. Buber, Il cammino dell’uomo, Qiqajon, Magnano (BI) 1990, 23.

[3] Agostino, La vera religione 39, 72.

[4] Cf. J. Moltmann, Teologia della speranza, 56-57.

[5] Ibid., 168.