إنّ القديس يوحنا الرسول هذا هو ابنُ زبدى وصالومي بنت إكلاوبّا المسمّى أيضا حلفى ، وهو ابن يعقوب وأخو يوسف خطيب مريم . ثمّ يوحنا هو أخو يعقوب الكبير وابن اخت يعقوب الصغير ( لوقا 3 : 23 ) . منشأه مدينة بيت صيدا . وقد دعاه المخلّص إلى الرسالة سنة 31 لميلاده ، وكان يوحنا حينئذ من العمر اثنتان وعشرون سنة كما روى بارونيوس . قال بعضهم : إنّ يوحنا كان العريس في عرس قانا الجليل ، ولمـــّا أحال المسيخ الماء خمرًا ، تركَ عرسه واستمرّ مدّة حياته بتولا ، وسواء صدق هذا القول أو لا ، فالمؤكّد أنّ يوحنا استمرّ دائمـــًا بتولا ، كما شهد جميع القدماء ، خاصة ترتوليانوس في كتابه في التزوّج بامرأة واحدة .
أحبّه المسيح بعد اتباعه له أكثر من سائر الرسل ، حتى اتكأ على صدره في العشاء السريّ بدالّة كبرى ، ونال منه معرفة الأسرار الإلهيّة . وسمّاه المخلّص وأخاه يعقوب الكبير ” بوانرجس ” أي ابني الرعد (لوقا 3 : 17 ) ، لأن عملهما وإنذارهما بالإنجيل كان كصاعقة مبرقة مرعدة في سماء البيعة . وهو الذي استحقّ أن يقيمه السيّد وهو على الصليب ابنا لأمّه ، وبالتالي أخا له ، إذ قال لها : ” يا امرأة هذا ابنك . و ” يا يوحنّا هذه أمّك ” . وعند تفرّق الرسل للإنذار والتبشير في الآفاق ، أصابته القرعة آسية الصغرى ، فبشّر فيها بإيمان المسيخ بغيرة وقّادة . وصار أسقفا على أفسس ونصب كرسيّه فيها ، ونشر الإيمان بالمسيح هناك طولا وعرضــا ، فسمع به دوميتيانوس قيصر فاستحضره إلى رومة مكبّلا بالقيود ، وأمر بجلده لتبشيره بإيمان المسيح ، ثمّ ألقوه في قدر ٍ مملوءة زيتـــا يغلي فلم تنله مضرّة ، ولذا يُحسَب شهيدا . فانكاد دوميتيانوس لذلك ونفاه إلى جزيرة بطموس القريبة من رودس ، وهناك ثمّ جليانه العجيب .
أقامَ في منفاه سنة وعاد إلى كرسيّه بعد موت دوميتيانوس . وشيّد في آسية الصغرى الكنائس السبع المذكورة في رؤياه . وامتحنه أعداءُ الإيمان ، بأن أسقوه كأسا مملوءة سمّا نافعــــًا لإثبات إيمانه فلم تؤذه . ولهذا يصوّرونه وبيده كأس فيها أفعى .
قال الكاردينال بارونيوس : إن يوحنا بلغ من العمر السنة الثالثة والتسعين ، وهو الأصحّ . وقال إيبوليطوس ، إنه عاش مئة وستّ سنين . وغيره تسعا وتسعين . وفي نسخة إنجيله القبطيّة ، إنه عاش مئة سنة وسنة . وبعد أن بلغ من العمر ما بلغه ، صعد بتلاميذه جبلا عاليًا في أفسس فيه كنيسة ، فحفرَ تلاميذه له ، بأمره ، قبرًا دخله حيّا . وإذا بنور ٍ ساطع حجبه ، ولما ارتفع ذلك النور أبصروا قبره مغطّى بالتراب ولم يروا لمعلّمهم أثرًا ولا عينا ، وكان يجري من القبر شيء كالدهن الذكيّ الرائحة ، وشفى كثيرًا من المرضى . ذهبَ كثيرٌ من الآباء والعلماء إلى أنّ يوحنا صعد بنفسه وجسده إلى السماء كمريم العذراء . وقال إيبوليطوس وبعضهم : إنه لم يمت بعد ، بل صعد إلى السماء حيّا كأخنوخ وإيليّا ، وسوف يأتي أمام الدجّال لمقاومته . وهذا مسنود إلى قول المخلّص لبطرس عن يوحنا في آخر بشارته : إن أشاء أن يثبت هذا حتى أجيء فماذا إليكَ ؟ .
كتب يوحنا من الأسفار المقدّسة رؤياه ورسائله المشهورة ثمّ الإنجيل . الصحيح أنّ يوحنا كتب إنجيله عند آخر حياته بعد عودته من منفاه ، سنة 99 لميلاد المخلّص ، وسنة 66 لصعوده ، ولا يُعتدّ بما ذكر في نسخته القبطيّة أنّ يوحنا كتبه سنة 30 لصعود المخلّص ، وقد كتب هذا الإنجيل باليونانيّة في آسية الصغرى ، وإن كان مفعمًا من العبارات العبرانيّة لغة مولد يوحنا . وقد دوّنه بطلب أساقفة كنائس آسية الصغرى وغيرها .
روى مار إيرونيموس في المقدّمة على إنجيل متى ، أنّ يوحنا قبل كتابه إنجيله فرض على المؤمنين صومًا عامّا . ولما أتمّوا ذلك ، أخذ بكتابة تلك الفاتحة المنزلة من السماء ، وهي : في البدء كان الكلمة ….. وروى بارونيوس في تاريخ 99 للمخلّص نقلا عن سمعان متفرستي وغيره ، أنّ يوحنا لما أمرَ المؤمنين بالصوم أخذ تلاميذه بروكلوس وصعد به جبلا عالًا وأقام عليه صائمًا مصليّا كموسى ، فخـــُطِفَ عن حسّه وعرضت بروق ورعود وصواعق كما عرض لموسى عند قبول الشريعة . ثمّ استحالت تلك الرعود إلى أصوات مفهومة تقول : في البدء كان الكلمة … فشرع يوحنّا حينئذ ٍ بنصّ إنجيله وبروكلوس تلميذه يكتبه .
قال الآب دوناسيان مُلا اليسوعيّ ” شبّه أحد الشرّاح مقدّمة إنجيل يوحنا بإستهلاليّة موسيقيّة … ” . التشبيه موفّق فعلا . فمقدّمة الإنجيل الرابع تبرز من الصمت ، مثل الائتلافات الآولى في السمفونيّة ، فتبشّر بالأفكار الرئيسيّة التي ستتناولها المقطوعة ، وتجمعها وتقارنها . تكشف مسبقا عن جوهر المقطوعة ، فتجعلنا نندمج فيها ، ونتناغم معها فنواجهها بصمت ٍ وخشوع ، كما نستجمع أفكارنا للإستماع إلى الموسيقى ، فيكون للكلمات تأثيرها وثقلها ، كأنها آتية – وهي آتية فعلا – من أعماق الأزليّة ” .