يذكّرنا سفر التكوين ، بأنه عندما نفخ الربّ في الخواء ، بدأت الخليقة الأصليّة تأخذ كيانـــــًا . ينفخ الله للمرّة الثانية روحه على الأرض ، وفي ” ذلك الدويّ كريح عاصفة ” تنبعثُ فيها الحياة الجديدة . إنقلاب الكيان (الإهتداء) يحدثُ بفعل الروح القدس . يحصلُ كثيرًا في حياة الكثيرين ، أن تنقلب حياتهم رأسا على عقب ، وكما يقول المصريّون ” تتلخبط حياتهم ” ! لا اللخبطة غير المرتّبة ، بل إنه إشتعال كيانهم بسبب رؤية أمر ٍ عجيب ، والإحساس بنسمة إلهيّة غيّرت حياتهم وقلبت أفكارهم ، بمعنى ، إنهم أخذوا كيانا جديدًا وخلقوا ثانية .
هذا ما نراه عندما حلّ الروح القدس على الرسل في العليّة على شكل ألسنة ناريّة ، فلقد قلبت كيانهم وأصبحوا جُددًا. تغيّر كيانهم إلى كيان على شاكلة المسيح القائم . إنهم أصبحوا أحباء الربّ . هكذا ، كما يمنح الروح القدس التلاميذ بالنعمة وتجديد الكيان ، كذلك يمنح الكنيسة الآولى القوّة والنعمة والفاعليّة .لقد انقلبوا من أناس خائفين مذعورين إلى أشخاص ينشدون بعظائم الله بجرأة واقتناع . زال التردّد لأنهم ليسوا وحيدين الآن ؛ لا يحتاجون بعد الآن أن يتّكلوا على قواهم الشخصيّة ومواهبهم فحسب (كما يفعل الكثيرون اليوم ) ، لقد حصلوا على حياة جديدة فيهم هي حياة روح الله .
تعبّر حياة الروح في الكنيسة عن مفاهيم كثيرة . فالروح هو ينبوع كلّ قداسة وكل قدرة ومصدر جميع المواهب التي نحصل عليها . ترتّل الكنيسة يوم العنَصرة ترنيمة تشّدد فيها على دور الروح القدس وعلى ارتباطنا به في كلّ شيء : ” إنّ الروح القدس يهب كل شيء : يفيض النبوءة ويكمّل الكهنوت . يعطي الحكمة للأميّين ويظهر الصيّادين متكلّمين باللاهوت . وهو يرتّب كلّ نظام الكنيسة . فيا أيّها المعزّي المساوي للآب والابن في الجوهر والعرش المجدُ لك ” .
يقول كتاب التعليم المسيحيّ الكاثوليكي للشبيبة (Youcat) : مع أنّ الكنيسة كثيرًا ما بدت في تاريخها الطويل ” وكأنّ جميع الأرواح الصالحة غادرتها ” ، فإنّ الروح القدس يعمل فيها رغم الأخطاء كلّها والتقصير البشريّ . وحده وجودها منذ ألفي سنة ، والقدّيسون الكثيرون في العصور والثقافات كلّها ، برهانٌ منظور على حضوره . الروح القدس هو الذي يحفظ الكنيسة بكلّيتها في الحقيقة ، ويقودها إلى عمق متزايد في معرفة الله ” .
مخطّط الله الوحيد هو كشف حبّه للبشر ، ذلك الحبّ الذي بينه وبين الابن ، يريد أن يتحقق في كلّ الخليقة (أفسس 1 : 4) . مخطط الله نراه في تاريخ الخلاص الذي يبدو فوضويّا بعض الشيء ، تنفذ منه هذه الحقيقة ، فلولا محبّة الله لما وجدنا . أمّا الكنيسة التي أرادها المسيح ، فلها مكانٌ في هذا المخطط ، إنها تبشّر بحبّ الله ، وبالخلاص الذي حقّقه يسوع بالقيامة ، تقدّم لنا الأسرار لكي نشترك في هذا ” الفصح ” (العبور) ، تساعد كلّ واحد منا كي يصبح مسيحًا آخر ويصبح الله أبـــــًا لنا ، يحيينا بالروح ، والروح يحرّرنا . وخير طريقة نتكلّم بها عن الكنيسة ، هو أن ننتظر إلى مريم التي حملت يسوع وقدّمته للعالم ، فالمسيح سلّم أمه على الصليب لتلميذه يوحنا ، ومريم في العليّة قبلت الروح القدس لتصبح أمّا للكنيسة وللعالم .
إنّ الروح هو حياة الكنيسة وشركتها . هناك صيغة ليتورجيّة قديمة جدّا تقول : نعمة ربّنا يسوع المسيح ، ومحبّة الله الآب ، وشركة الروح القدس تكون معكم ” (2 كور 13 : 13 ) . صيغة ثالوثيّة تعطي للروح القدس مهمّة ” الشركة” . وتقول الرسالة الثانية أيضا إلى أهل كورنتوس في الأصحاح الثالث الآية 17 : ” حيث يكون روح الرب هناك الحريّة ” . إذن ، نرى أن هناك رابطٌ قويّ بين الروح وبين الحريّة . فهاتان حقيقتان يمتاز بهما الروح القدس : الشركة والحريّة . فمَن أراد أن يشارك في حياة المسيح والكنيسة يجب أن يكون حرّا ، والمشاركة الفعليّة بدورها أيضا تحرّر الإنسان . الروح القدس هو طاقة ديناميكيّة فعّالة مستمرة تحقّق التحرّر والمشاركة .