وصلنا أخيرًا إلى موهبة العلم ، فلقد تقصّدت وضعها في النهاية لما لها من أهميّة في عالمنا اليوم وكيفيّة التعايش معها لئلّا نصاب بمشاكل نحن في غنى عنها ، وهي مشاكل تخصّ الإيمان والعلم ، وعدم الوقوع في تطرّف مريض ، أو “علمانيّة – ليبراليّة ” ضدّ الإيمان .
عندما نتحدّث عن العلم ، يذهب الفكر فورًا إلى قدر الإنسان على معرفة أفضل للواقع المحيط به واكتشاف القوانين التي تنظّم الطبيعة والكون . إلا أنّ العلم الذي يأتي من الروح القدس ، لا يتوقف على المعرفة البشريّة وحسب: إنه موهبة خاصة ، تجعلنا ندرك ، من خلال الخليقة ، عظم ومحبة الله وعلاقته العميقة بكل خليقة ( …..) ، يجب أن نطلب إلى الروح القدس أن يفيض علينا موهبة العلم لكي نفهم جيّدًا أن الخليقة هي هبة الله الأجمل . لقد أعطانا الكثير من الأمور الصالحة لأفضل الخلائق ، الشخص البشري . (البابا فرنسيس) .
إنّ ما يجعل موهبة العلم ضروريّة ، هو الوسواس الذي يشعر به كلّ مؤمن ، مهما كان صادقا مخلصًا ، تجاه الخلائق التي هي موضوع طبيعيّ لفهمه . نحن نرى أشياء هذا العالم ولا نرى الله (وكأننا نرى بعين واحدة !) نُجتذب إلى الأرض ونجرَّب بالإعراض عن التأمّل بالإلهيّات . ما أكثر ما تشغل الخلائق فكرنا : وكم نخدَع بعِلمنا لها ! فالبعض يظنّون أنه يمكن أن تعلّل بدون الله ، فمعرفتهم للخلائق معرفة كاذبة . غيرهم يقبلون بوجود الله ، لكنّهم يظنون أن بعض الأمور خارجة عن نطاق عنايته ، كالحريّة مثلا وكلّ النظام المستند عليها ، وهكذا ينتزعونَ الإنسان والمجتمع من دائرة تدبير الله وعنايته . وهناك ، وهم الأخطر ، الذين يظنّون أنّ العلم والعقل ومبدإ التجربة والبرهان ، هم الأساس في علاقتنا بالعالم ، يصفون أنفسهم أنهم ” ليبراليّون – علمانيّون ” لا علاقة لهم بالدين وبالإيمان ، وبأنّ هذا الأخير (الإيمان ) هو سبب مصائب الإنسان وعدم تطوّره ، لأنه الإنسان ، في إيمانه هذا ، يقدّس كلّ شيء ولا يناقش أيّ شيء لأنه وحيٌ من الله . بينما العلم يختلف وقابل للتطوّر والتجديد . وأيضا ، بأنّ الإيمان والدين هما سبب رجعيّة الإنسان ، ويؤدّي إلى التطرّف والتعصّب .
في الواقع ، هذا الأمر ، وإن كان فيه قليلٌ من الصحّة (أي أن الدين والإيمان عند الكثيرين ، يؤدّي إلى تعصّب وتطرّف بسبب عدم فهمهم وعلمِهم بالأمور اللاهوتيّة والإيمانيّة ، أو عدم استطاعتهم التعامل معها ) . فيجب أن يعطي المؤمن ضدّ هكذا حروب تجابهه ، الردّ السليم ، وعيش حياة الإيمان بحسب منطق وعقلانيّة وعلم الله . الروح القدس ، يدرك هكذا أمور وحروب ، وهو ، إن وضعنا له حريّة التصرّف من دون أيّة قيود ، سينير الطريق ويفتح لنا أبواب الحياة والفهم والعلم ، ويفتح كل إنغلاقيّة ممكن أن توجد فينا ، ويخلّصنا من براثن التطرّف والتعصّب ومن الوساوس أيضا . إنها موهبة العلم (موهبة الروح القدس ) ، التي ، إن وضعناها في مكانها الصحيح بكلّ ثقة وحبّ ، من شأنها أن تصوّر فينا فكرة صائبة عن الخلائق ، وعن كيفيّة التعايش مع الإيمان ومع العالم ، لكي لا تكون عائقا بل عونــــــا ، فلا تعيق لا العلم ولا الإيمان بل يكونان كلاهما مبدآن يسيران معـا لخدمة الإنسانيّة وبناءها من الجذور لكي تعطي ثمارًا يافعة .