إنّ الإيمان ليس علمًا يكشفُ لنا بالتدقيق غوامض الماضي فيعلّمنا كيف نشأ الكون ووجد الإنسان ، ولا غوامض المستقبل فيُنبئنا كيف ستكون نهاية العالم وحياة الإنسان بعد الموت . فإنّما الإيمان علاقة حياة بين الله والإنسان . فالمؤمن يرى أنّ الله مبدأ وجوده ومصير حياته ؛ والمسيحيّ يؤمن أنّ الله قد ظهرَ في العالم ظهورًا نهائيّا (أو ، حسب التعبير اللــاهوتيّ اليونانيّ ، ظهورًا اسختولوجيّا) في شخص يسوع المسيح . فالمسيح هو الألف والياء ، البداية والنهاية ، الأوّل والآخر ، المبدأ والغاية .
المجيء الثاني هو تأكيد انتصار ” المحبّة الإلهيّة ” . إنّ حياة يسوع وموته هما الدليل الثابث على محبّة الله وأمانته . لكن ، قد يبدو قول ” محبّة الله ” قولا نظريّا ، إلاّ أنّ يسوع الذي عاش بين البشر وأحبّ ، وتعذّب واحتمل الظلم ، ليس كائنا نظريّا هوائيّا أو فكرة اسطوريّة أو محض خيال ، بل هو الحقيقة الواقعيّة الفعّالة والمحسوسة في تاريخ حيّ . عندما ننظر إليه تستنيرُ النواحي المظلمة من الحياة البشريّة وتأخذ هيئة نورانيّة ، وتتحوّل الفوضى إلى تنظيم ، ويتحوّل العذاب والظلم والشرّ واللامعنى الذي كثيرًا ما يهدمُ إرادة الخير والحقّ ، على ضوء صليب المسيح ، بالإتجاه المعاكس .
المجيء الثاني ، هو ترقّب ما سيصنعه الله للعالم في المستقبل على ضوء ما صنعه لأجله في الماضي . في مجيء يسوع الناصريّ الأوّل ، وفي كلّ أحداث حياته وموته ، أظهرَ لنا الله محبّته ظهورًا خفيّا وجزئيّا في بقعة من الأرض وفي قلوب عدد ٍ يسير ٍ من المؤمنين . إيماننا بالمجيء الثاني هو الإيمان بأنّ تلك المحبّة ستظهر ظهورًا علانيّا نهائيّا شاملا : ” يشبه ملكوت السماوات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله . إنها أصغرُ البذور جميعًا ، بيد أنها إذا نمتْ تصير أكبر البقول جميعًا ، ثمّ تصبح شجرة حتى أنّ طيور السماء تأتي وتعشّش في اغصانها ” ( متى 13 : 31 – 32 ) .
معنى هذا ، أنّ بذرة الله الخلاصيّة ، من خلال دخولها باطن التاريخ الإنسانيّ ، تحوّله ، رغم مآسيه وصراعاته وظلامه ، إلى حقل لملكوته السماويّ . هو ولادة الإيمان بأنّ تاريخ العالم القاتم سيصلُ إلى نهايته حيث ستشرق عليه محبّة الله.الإيمان بالمجيء الثاني ، هو تفسير للتاريخ إنطلاقا من الإيمان ، ولكن هذا التفسير ليس تفسيرًا إعتباطيّا ، بل يستندُ إلى التاريخ : إلى حياة يسوع التي أظهرت قوّة الخير ، وإلى موته الذي أعلن قوّة المحبّة الخلاصيّة .
الإيمان بحقيقة المجيء الثاني ، يجب أن يبتعدَ عن فضوليّات الإنسان المعاصر اليوم . المهمّ فقط ، بالنسبة ليسوع ، هو ” اليقظة والسهرو الصلاة ” ! الإيمان بالمجيء الثاني ، في هذه الحالة ، هو يقيننا أنّ العالم لن يجد ملئه بقوّته الذاتيّة ، والتاريخ لن يجد إكتماله بتطوّر شرائعه ونواميسه . فالعالم والتاريخ بحاجة إلى قوّة تفوقهما وتمنحهما الملء والإكتمال .
الإيمان بعودة المسيح هو العمود الثاني في الإعتراف المسيحيّ . فهذا الذي اتّخذ جسدًا ، ويبقى الآن وعلى الدوام إنسانا ، والذي فتح إلى الأبد في الله مجال الكائن الإنسانيّ ، يدعو العالم أجمع إلى ذراعي الآب المفتوحتين ، حتى يصير الله ، في النهاية ، كلّا في الكلّ ، وحتى يستطيع الابن أن يجمع العالم فيه ، ويقدّمه إلى الآب .
يقول الأب وليم ج. فولكو اليسوعيّ : ” الإيمان بيسوع ، يعني وضع ثقتنا خارج انفسنا ، ومثل الحبّ ، ينظر إلى المستقبل . الإيمان هو في يسوع . وهذا يعني القفز خارج حدود الزمان والمكان ، مؤكّدا أنّ المستقبل سيكون لي ، في يسوع المسيح وبفضله. ويرى الإنسان المؤمن أنّ الماضي جزء لا يتجزّأ من تاريخه ، وأيضا هو آت ٍ(…) الإيمان يحترم المستقبل ، ويضعُ ثباتنا في يسوع الذي هو آت ٍ ..”
ويُتحِفنا البابا بنديكتوس السادس عشر حول عودة المسيح ويقول : “(….) مجيء المسيح لا ينسجمُ على الإطلاق مع زمن التاريخ ومع نواميس سيره ، وبالتالي لا يمكن أبدا أن يُحسَبَ بأيّ شكل من الأشكال إنطلاقا من التاريخ عينه . وحيثُما يُحسَب ، يلجأ الإنسان إلى المنطق الخاصّ بالتاريخ ، وبالتالي يخطئ عمله بالضبط الصلة بالمسيح ؛ فالمسيح ليس نتيجة التطوّر ولا مرحلة جدليّة في مسيرة العقل ، بل هو الآخر الذي ، من الخارج ، يفتح أبوابَ الزمن والموت ؛ فمجيئه بحدّ ذاته لا يمكن أن يؤرّخ . الجواب الوحيد على مسألة ” العلامات ” وعلى كلّ محاولة ٍ لوصف مجيء المسيح ، لا يمكن إلا أن يكون رفض هذا السؤال واستبداله بالنداء التالي : ” وما قلته لكن أقوله للجميع: اسهروا ” (مرقس 13 : 37 ) . المقابل الإنسانيّ لعلاقة المسيح القائم من بين الأموات ، بزمن العالم ليست فلسفة التاريخ ولا لاهوت التاريخ ، بل ” السهر ” . السهر واليقظة والوعي ليس فكريّا فقط وبطريقة نظريّة ، بل بوعي المحبّة الإلهيّة والمسامحة والغفران والرحمة والتواضع والصلاة . ” مجيء المسيح الثاني هو عملُ محض من الله ولا علاقة له بالتطوّر الطبيعيّ ولا بالتاريخ ولا بأيّ حساب زمنيّ وتاريخيّ ” .
إنّ نهاية العالم التي يؤمن بها المسيحيّ هي شيءٌ مختلف عن فوز التقنيّة النهائي ، ولكن الخلط الذي أحدثته التقنيّة بين الطبيعة والروح يسمح لنا أن نفهم ، بطريقة جديدة ، كيف يجبُ أن يتوجّه تفكيرنا حول حقيقة الإيمان بعودة المسيح : كإيمان بتوحيد ٍ نهائيّ للحقيقة إنطلاقا من الروح . أيّ أنّ المجيء الثاني للمسيح ، هو ظهور الحقيقة الكاملة المطلقة للإنسانيّة و
للتاريخ وإسقاط كلّ الأقنعة والتصنّعات والتزييف . سيشكّل الروح الحقّ في المادّة والجسد والتاريخ ويعطيهم ناموسًا جديدًا ، ويوحّد الكيان ، ويُلاقي كلّ الأجزاء المتباعدة ، وبالتالي ، سيحوّل ” المجيء الثاني ” الأفراد إلى أشخاص ذوو علاقة وليس فقط أفرادًا ضائعين مشتّتين في متاهات غامضة حُجِزوا فيها بسبب أفكار إبليسيّة تعصفُ حيواتهم ، وتبعدهم عن الحقّ والصدق وصنع الخير .