سنة 557 ميلادية، جرى حدث تاريخي في مدينة أم الجمال، ألا هو تدشين كاتدرائية المدينة، فجاءت الوفود المشاركة من مختلف الأبرشيات المجاورة في الأردن وسوريا فلسطين. وكانت أم الجمال آنذاك في أوج عزها ومجدها. ولا بدّ أن خريطة مادبا الفسيفسائية التي تعود إلى حوالي سنة 565، أي ثماني سنين بعد تدشين الكاتدرائية، قد ذكرت ورسمت مدينة أم الجمال وكاتدرائيتها والمدن والمراكز الأخرى التي تتمتع بشيء من الأهمية في الصحراء الأردنية. ومما يؤكد لنا ذلك، بنوع خاص، أن فناني الخريطة راحوا يملأون الفراغ، في الأجزاء الصحراوية الخاوية، ببعض صور الحيوانات التي كانت تعيش في الصحراء، فكيف لا يملأونها بمدنها العامرة؟. ولكن من المؤسف حقاً، ألا تصل إلينا خريطة مادبا سالمة من كل شائبة، فقد عبث بها الزمان ودمّرت أجزاء كبيرة منها بأيدي الإنسان.
لقد عثر في مدينة أم الجمال على خمس عشرة كنيسة، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على ازدهار المسيحية وأصولها العريقة، وعلى تقوى أهلها وحبهم للمسيح. ولا غرابة في ذلك، فالمدينة محط ترحال عشرات الألوف من البشر والقوافل، فكان لا بدّ للسلطة الكنسية من أن تهتم اهتماماً روحياً موصولاً بالمسيحيين الوافدين إلى المدينة مع القوافل من كل فجّ وصوب. أما أقدم كنيسة، فهي كنيسة يوليانوس التي تعود إلى سنة 345، وقد يكون هذا الاسم اسم المهندس المعماري الذي بناها. كما هي الحال كنيستي كلوديانوس وماسيشوس، أو اسم المحسن الذي تبرع ببنائها.
وفي العصر البيزنطي، تحوّلت الثكنة العسكرية إلى دير، وهي تسمى اليوم (الدير)، وتشير إلى ذلك الكتابة التي عثر عليها على دائر البرج في الزاوية الجنوبية الشرقية منه. وللبرج ستة أدوار، ويبلغ ارتفاعه ستة عشر متراً، وتبرز منه شرفة فوق كل جهة من جهاته الأربع، كتب عليها أسماء رؤساء الملائكة: جبرائيل وميخائيل وروفائيل، على ثلاث منها، وعلى الجهة الرابعة كتب اسم اوريئيل، وهو ملاك اسطوري، والثكنة بناء مستطيل فيه كنيسة من ثلاثة أروقة، وحول الكنيسة باحة مفتوحة ومحاطة بصف أو صفين من الغرف.
ومن أبرز كنائسها، الكنيسة الغربية الواقعة من بوابة كومودوس. ويبلغ طول مدخلها الرئيسي حوالي أربعة وعشرين متراً، ويبلغ صحنها حوالي اثنين وعشرين متراً، وعرضه ستة عشر متراً. وبجوار الهيكل قوسان نقش عليهما صليبان. ويحيط بالكنيسة رواقان من الشمال ومن الجنوب، وبين صحن الكنيسة والأروقة صفان من الأقواس. وأما بقية الكنائس، فبعضها يتخذ شكل قاعة كبيرة، وبعضها يحوي صحناً في الوسط، تفصله عن الأروقة الجانبية أقواس قائمة على قواعد.
عوامل طبيعية وتجارية كانت سبباً في دمار أم الجمال، وفي هجر سكانها لها. فالزلزال الرهيب الذي حدث سنة 746 والتغيير الجذري الذي طرأ على طرق التجارة، كانا سببين رئيسيين في زوال أم الجمال اقتصادياً ومعمارياً، وفي دفنها في قبر النسيان. فقد راحت القوافل تمر بعيدة عنها ولم يعد هنالك من يحلم بما يرقد بين أنقاضها سوى بعض البدو والمفتشين عن الذهب والكنوز. لقد رضيت أم الجمال مرغمة بأن تُنسى، وأن تُهمل، وأن تُنشأ غيرها من المدن وتزدهر، ولكنها بقيت وفيّة، تتحدث لمن يقرأ لغة الآثار عن مجدها المندثر وعزّها الغابر. إنها جميلة، وجمالها على ما تقول أخبارها وآثارها في مسيحيتها.
أنا سوداء، ولكني جميلة
كان القرن الأول قبل الميلاد العصر الذهبي للمملكة الصغيرة التي أنشأتها قبائل الأنباط العربية في جنوبي الأردن الحالي. وقد امتدت حدودها إلى جنوبي سوريا الحالية، بعد انتصار ملكها عبيدة الأول على الإسكندر جانيوس في المعركة التي وقعت بينهما سنة 90 ق.م على مقربة من شاطىء بحيرة طبريا الشرقي. وفي سنة 78 ق.م انتصر ملكهم رابيل على أنطيوخس الثاني عشر “ديونيزيوس”. ووصل ملكهم الحارث الثالث (87–62 ق.م) بجيوشه إلى القدس وحاصرها، كما وصل إلى الشام، فصكّ أهلها عملة تخليداً له.
كانت قوافل الأنباط تجوب الصحراء محملة بالسلع التجارية من بلادهم ومن الجزيرة العربية، وربما من الهند أيضاً. وكانت تصل إلى مصر وسوريا وبلاد فارس. فكان لا بدّ من إقامة المحطات على الطريق، وبخاصة في الصحراء الشاسعة. في هذا العصر الذهبي أنشأ الأنباط “أم الجمال” ولعلّ اسمها الأساسي “ثانتيا” التي يذكر عدد من الجغرافيين القدامى أنها في هذه المنطقة الصحراوية، لتكون محطة استراحة للقوافل التجارية بين البتراء عاصمة المملكة والشام. وكانت في بادىء الأمر مركزاً صغيراً ازداد أهمية بازدهار التجارة على الخط البتراء / الشام.
وتقع أم الجمال في قلب الصحراء الأردنية، إلى الشرق من مدينة المفرق، على بعد 15 كيلومتراً منها، وعلى مقربة من طريق بغداد القديمة. وقد بنيت بالحجر البركاني الأسود الذي خلفته البراكين في تلك المنطقة. وعثر فيها على كتابات نبطية، ولكنها لا تذكر اسم المدينة، كما عثر خارج السور على قبور نبطية كثيرة كانت معظمها مدافن للعائلات النبيلة.
ولما كان الماء أمراً جوهرياً في كل مكان وزمان، وبخاصة في الصحراء، فقد حفر سكان ام الجمال بئراً لكل بيت، وأنشأت السلطة بركاً كبيرة، وأقامت السدود لتخزين مياه الشتاء. وتقع أكبر بركة على الشمال الشرقي من المدينة، ويبلغ طولها أربعين متراً وعرضها ثلاثين متراً وعمقها أربعة أ
متار ونصف. ولا تزال بعض الآبار صالحة حتى اليوم. وكذلك أُعدت ساحات كبيرة وعديدة داخل المدينة لإقامة القوافل التي كانت تغشاها، والتي كانت سبباً في تسميتها بأم الجمال. فكانت المدينة محظة ترتاح فيها القوافل وتتزود بالماء والطعام ثم تتابع طريقها.
إلا أن الرومان، في مطلع القرن الميلادي الثاني (105)، في عهد الإمبراطور ترايانوس، قد قضوا على مملكة الأنباط، وأسموها “المقاطعة العربية”. واهتموا اهتماماً ملحوظاً بطرق التجارة، وأبقوا عليها وعززوها ووصلوا بأم الجمال إلى قمة الازدهار. فاستمرت المدينة في حياتها الهادئة. وبني سور المدينة في القرن الثاني بعد الميلاد، وفيه بوابتان من جهة الشرق، وبوابتان من جهة الغرب، وبوابتان من جهة الجنوب، وبوابة واحدة من جهة الشمال. وتحمل البوابات الشرقية والجنوبية أبراجاً للمراقبة وللدفاع عن المدينة. وقد عثر على كتابة تدلنا على أن البوابة الغربية أنشئت في عهد الإمبراطور كومودس وهي مكونة من برجين يجمعهما قوسان. وكومودس (180-192م) هو الحاكم الذي خلف والده ماركوس أوريليوس الذي حكم من سنة 161 إلى 180 ميلادية.
ليس في أم الجمال مدرجات وأعمدة فخمة وشوارع جميلة، فهي مدينة تجارية محضة شامخة بأبنيتها السود وبآثارها، تشهد أبراجها ومنازلها وكنائسها وبركها وساحاتها وبواباتها وطرقها، عبر العصور وتقلبات الزمن، على تعاقب الحضارات في بلادنا، وعلى عصر ذهبي وصل إليه الأنباط العرب عبر العصور الغابرة.