أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إنّي سعيد للقائي بكم وأشكركم على ترحيبكم الحار. أنا ممتنّ بشكل خاص، للأمين العام، القسّ الدكتور أولاف فيكسي تفيت، ولرئيسة الجلسة، الدكتورة أنييس أبووم، على كلامهم وعلى دعوتهم لي بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس المجمع المسكوني للكنائس.
يذكّر العدد سبعون، وفقًا للكتاب المقدّس، باكتمال فترة من الزمن، علامة للبركة الإلهية. ولكنه أيضًا عددٌ يعيد إلى الذهن مقطعين مشهورين من الإنجيل. في الأول، يوصينا الربّ أن نغفر بعضنا لبعض، لا سبع مرّات بل “سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات” (متى 18، 22). وهذا العدد لا يشير إلى مصطلح كمّي، إنما يفتح على أفق نوعيّ: لا يُقيس البرّ، إنما يشرع مقياس محبّة لا مقياس لها، محبة تقدر أن تغفر دون حدود. فهذه المحبّة هي التي، بعد قرون من التناقضات، تسمح لنا أن نجتمع معًا، كإخوة وأخوات متصالحين وممتنين لله أبينا.
وإن كنا هنا اليوم فهو بفضل الذين سبقونا في مسيرتنا، فاختاروا درب المغفرة وبذلوا ذواتهم لتلبية مشيئة الربّ: بأن “يكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا” (يو 17، 21). ومدفوعين من رغبة يسوع القلبية، لم يتركوا عِقَد النزاعات الشائكة تسوسهم، بل وجدوا الجرأة للنظر أبعد منها وللإيمان بالوحدة، متخطّين أسوار الشكوك والخوف. صحيح ما أكّده أحد الآباء القدامى بالإيمان: “إن كانت المحبّة تقدر فعلًا أن تزيل الخوف فيتحوّل إلى محبّة، فسوف نكتشف أن ما يخلّص إنما هي الوحدة” (القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص، العظة 15 حول نشيد الأناشيد). فنحن المستفيدون من إيمان ومحبّة ورجاء الكثيرين الذين، بقوّة الإنجيل التي لا تنضب، امتلكوا الشجاعة لتغيير وجهة التاريخ، ذاك التاريخ الذي قادنا لأن نكون حذرين من بعضنا البعض وأن نصبح غرباء بعضنا عن بعض، بعد دوامة شيطانية من التجزؤ المستمر. بفضل الروح القدس، ملهم ومرشد المسكونية، تغيّرت الوجهة ودرب جديدة، كما وقديمة أيضًا، قد رسمت ولا تمحى: درب الشَرِكة المتصالحة، نحو ظهور مرئيّ لتلك الأخوّة التي توحّد المؤمنين.
يقدّم العدد سبعون فكرة إنجيليّة ثانية. يذكّر بهؤلاء التلاميذ الذين، أرسلهم يسوع بمهمّة (را. لو 10، 1)، أثناء رسالته العلنية، والذين يحتفل بهم الشرق المسيحي. عدد هؤلاء التلاميذ يذكّر بعدد الأمم المعروفة، المدرجة في بداية الكتاب المقدّس (را. تك 10). ماذا يقترح علينا هذا الأمر؟ أن الرسالة تتوجّه لجميع الشعوب وأن كلّ تلميذ، كي يكون تلميذًا فعلا، يجب أن يصبح رسولا، إرساليا. لقد ولد المجلس المسكوني للكنائس كأداة لتلك الحركة المسكونية التي أثارتها دعوة قوية إلى الرسالة: كيف يمكن للمسيحيين أن يبشّروا بالإنجيل إن كانوا منقسمين فيما بينهم؟ هذا السؤال الملحّ يوجّه مسيرتنا مرّة جديدة ويترجم صلاة الربّ كي نكون متّحدين “لِيُؤمِنَ العالَمُ” (يو 17، 21).
اسمحوا لي أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، أن أعبّر لكم، إضافة إلى الشكر الحارّ، على العمل السخيّ من أجل الوحدة، وعن مصدر قلق أيضًا. قلق يتأتّى من الانطباع بأن المسكونية لم تعد مرتبطة بالرسالة بشكل وثيق كما كان الأمر في البدء. كما وأنه لا يمكن أن ننسى واجب الرسالة، الذي هو أكثر من الشماسية ومن تعزيز النموّ البشري. فالأمر يتعلّق بهويتنا. البشارة بالإنجيل حتى أقاصي الأرض متأصّل في كوننا مسيحيين. إن طرق مزاولة الرسالة تختلف، بالتأكيد، بحسب الزمان والمكان، وإزاء الميل -وهو متكرّر للأسف- إلى فرض الذات وفقا لمنطق دنيوي، يجب أن نذكّر بأن كنيسة المسيح تنمو من خلال الجذب.
لكن ممّا تتكوّن قوّة الجذب هذه؟ لا تتكوّن بالطبع من أفكارنا، أو استراتيجياتنا، أو برامجنا: فالإيمان بيسوع المسيح لا يأتي نتيجة تجاوب، وشعب الله لا يمكن تحويله إلى منظّمة غير حكومية. كلّا، قوّة الجذب تكمن بكاملها في تلك الهبة العظيمة التي اكتسبها بولس الرسول: “أَعرِفَهُ [المسيح] وأَعرِفَ قُوَّةَ قِيامتِه والمُشارَكَةَ في آلامِه فأَتمثَّلَ بِه في مَوتِه” (فل 3، 10). هذا هو فخرنا الأوحد: “مَعرِفَةِ مَجْدِ اللّه، ذلِكَ المَجْدِ الَّذي على وَجْهِ المسيح” (2 قور 4، 6)، الذي أعطي لنا من الروح المحيي. هذا هو الكنز الذي علينا أن نهبه، نحن الآنية من خزف (آية 7)، إلى عالمنا هذا المحبوب والمعذّب. لن نكون امناء للرسالة التي عهد بها إلينا إن اختزلنا هذا الكنز إلى مجرّد قيمة إنسانية بحتة، قابلة للتكيّف مع موضات الزمن. ونكون حرّاسا سيّئين إن أردنا فقط المحافظة عليها، فندفنها خوفا من تحدّيات العالم (را. متى 25، 25).
ما نحتاج إليه إنما هو دفع جديد للتبشير. إننا مدعوون لأن نكون شعبا يحيا الإنجيل ويتشارك بفرحه، شعبا يسبح الرب ويخدم الإخوة، بروح تتشوق لفتح آفاق صلاح وجمال لم يسمع بها من قبل لأولئك الذين لم تتح لهم بعد نعمة معرفة يسوع حقّا. إني مقتنع، أنه إذا ازداد الدفع التبشيري، فسوف تنمو الوحدة أيضًا فيما بيننا. كما أن التبشير قد ميّز ربيع الكنيسة في البداية، هكذا سوف يميّز التبشير ازدهار ربيع جديد مسكوني. كما في البدء، فلنغمر بعضنا البعض بشركة حول المعلّم، وبخجل بسبب تردّدنا المستمرّ، ولنقل له مع بطرس: “يا ربّ، إِلى مَن نَذهَب وكَلامُ الحَياةِ الأَبَدِيَّةِ عِندَك؟” (يو 6، 68).
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، لقد أردت المشاركة شخصيّا في احتفالات هذه الذكرى كي أؤكّد أيضًا التزام الكنيسة الكاثوليكية في المسألة المسكونية وكي أشجّع التعاون مع الكنائس-الأعضاء ومع الشركاء المسكونيين. وفي هذا الصدد، أودّ أن أتوقّف أنا أيضًا قليلا عند الشعار المأخوذ لهذا اليوم: أن نسير – ونصلي – ونعمل معًا.
نسير: أجل ولكن إلى أيّ اتّجاه؟ بناء على ما قيل، أقترح تحرّكًا مزدوجًا: نحو الداخل ونحو الخارج. نحو الداخل، كي نتوجّه باستمرار نحو النقطة المركزية، كي نعترف بأننا أغصان مطعمة في الكرمة الوحيدة التي هي يسوع (را. يو 15، 1- 8). فلن نحمل ثمارًا إن لم نساعد بعضنا البعض على البقاء متّحدين به. ونحو الخارج، باتّجاه الضواحي الحياتيّة العديدة الحالية، كي نحمل معًا نعمة الإنجيل الشافية للبشريّة المتألّمة. يمكننا أن نتساءل إن كنا نسير حقّا أم بالكلام وحسب، إن كنا نقدم الإخوة للربّ وكنا نعتني حقّا بهم أم أنهم بعيدون عن اهتماماتنا الحقيقية. يمكننا ان نتساءل أيضًا إن كانت مسيرتنا تراجعا أم انطلاقًا ملؤه القناعة نحو العالم كي نحمل له الربّ.
نصلّي: في الصلاة أيضًا، كما في المسيرة، لا يمكننا ان نتقدّم بمفردنا، لأن نعمة الله، أكثر من أن تحدّ من ذاتها لتأخذ حجم الفرد، تنتشر بتناغم بين المؤمنين الذين يحبّون بعضهم البعض. عندما نقول “أبانا”، يعود صدى بنوّتنا في قلبنا، ولكن أيضًا كوننا إخوة. الصلاة هي أوكسيجين المسكونية. ودون الصلاة تختنق الشركة ولا تتقدّم، لأننا نمنع ريح الروح القدس من دفعها للأمام. لنسأل أنفسنا: كم نصلّي من أجل بعضنا البعض؟ الربّ قد صلّى كيما نكون واحدا: هل نتمثّل به في هذا الأمر؟
نعمل معا. في هذا الصدد أودّ أن أؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية تعترف بالأهمية الخاصة للعمل الذي تنجزه لجنة الإيمان والنظام وترغب بمتابعة المساهمة فيها عبر مشاركة لاهوتيين رفيعي المستوى. إن البحث عن رؤية مشتركة للكنيسة التي تقوم بها لجنة الإيمان والنظام وعملها أيضًا حول تمييز المسائل المعنوية والاخلاقية، تطال نقاطًا رئيسية للتحدّي المسكوني. وفي الطريقة نفسها، إن الحضور الناشط في الجنة للرسالة والتبشير؛ التعاون مع المكتب من أجل الحوار بين الأديان، والتعاون مؤخّرا حول الموضوع المهمّ للتربية على السلام؛ كما والتحضير المشترك لنصوص أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين، وأشكال أخرى مختلفة من التعاضد، تشكل عناصرًا أساسية من تعاون قوي وثابت. وأقدر أيضًا الدور الأساسي الذي يلعبه معهد بوسي المسكوني في التربية المسكونية التي يقدّمها لأجيال جديدة من مسؤولين رعويين وأكاديميين في الكثير من الكنائس والطوائف المسيحية في العالم كله. الكنيسة الكاثوليكية، من أعوام عدة، تتعاون في هذا العمل التربوي عبر وجود أستاذ كاثوليكي في الكلية؛ ويسرّني أن ألتقي كلّ عام بمجموعة الطلاب الذين يقومون بزيارة دراسية إلى روما. أودّ أن أذكر أيضًا، الاشتراك المتزايد في اليوم العالمي للصلاة من أجل الخليقة والذي يشكّل علامة “انسجام مسكوني” جيدة.
إضافة إلى هذا، إن للعمل الكنسي المعهود مرادف محدّد: الشماسية (diakonia). إنها الدرب التي يجب اتّخاذها لاتّباع المعلّم الذي “لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم” (را. مر 10، 45). إن الخدمة المتنوعة والمكثفة التي تقدّمها الكنائس-الأعضاء في المجلس تجد تعبيرًا رمزيّا لها في حجّ العدالة والسلام. فمصداقية الإنجيل توضع على المحك في الطريقة التي يستخدمها المسيحيون لتلبية نداء الذين، في كلّ زاوية من الأرض، هم ضحايا مظلومون لتهميش مأساويّ متزايد، يولّد الجوع فيثير النزاعات. الضعفاء هم دوما مهمّشون، دون خبز، ودون عمل ومستقبل، فيما أن الأغنياء هم في تضاؤل دائم وفي غنى متزايد على الدوام. ليشغل اهتمامنا بكاء الذين يتألّمون، ولنظهر تعاطفنا، لأن “برنامج المسيحي هو قلب يرى” (بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة الله محبّة، 31). لنرى ما يمكن عمله فعليًّا، بدل أن نفقد الشجاعة بسبب ما ليس باستطاعتنا أن نعمله. لننظر أيضًا إلى الكثير من إخوتنا وأخواتنا الذين، في أجزاء مختلفة من العالم، ولا سيما في الشرق الأوسط، يتألّمون لأنهم مسيحيّون. لنكن قريبين منهم. ولنتذكّر أن مسيرتنا المسكونية تسبقه وترافقه مسكونية فعليّة، مسكونية الدمّ، التي تحثّنا على المضيّ قدمًا.
لنشجّع بعضنا بعضًا على تخطّي تجربة إعطاء قيمة مطلقة لبعض النماذج الثقافية والغرق بالمصالح الخاصة. ولنساعد الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة في فسح مجال أكبر للأوضاع والأحداث التي تتعلّق بجزء كبير من البشرية، إنما موضوعة على الهامش في المعلومات الرئيسيّة. لا يمكننا عدم المبالاة، بل هناك ما يقلق عندما يظهر بعض المسيحيين عدم اكتراثهم إزاء المحتاجين. والأمر المحزن أكثر، هو اقتناع أولئك الذين يعتبرون أرباحهم الخاصة مجرّد علامات للمحبة الإلهية بدل أن تكون دعوة إلى خدمة العائلة البشرية بمسؤولية وإلى حماية الخليقة. إن الربّ، السامري الصالح تجاه البشريّة (را. لو 10، 29- 37)، يحثّنا على محبّة القريب، كلّ قريب (را. متى 25، 31- 46). لنسأل أنفسنا بالتالي: ماذا يمكننا أن نفعلمعًا؟ إن كانت هناك خدمة ممكنة، لماذا لا نعدّها ونتمّمها معًا، مستهلّين اختبار أخوّة أكثر عمقًا في ممارسة المحبّة الملموسة؟
أيها الإخوة والأخوات، أجدّد شكري القلبيّ لكم. ولنساعد بعضنا البعض على السير، والصلاة والعمل معًا كيما، بعون الله، تتقدّم الوحدة والعالم يؤمن. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2018