بقلم أشرف ناجح إبراهيم
روما، الاثنين 24 سبتمبر 2012 (ZENIT.org). – في هذا “الإِرشادِ الرَّسوليِّ” نلاحظ مدى اهتمامِ البابا بندكتس الـ16 الرَّعويِّ بالمسيحيين المُقيمين في الشَّرقِ الأوسطِ وحضورهم المُستمرِ في فكره وصلواته (راجع خاصة البندين 95-96). ومِن ناحيَّةِ أخرى يُحثُّ قداسته مسيحي الشَّرقِ الأوسطِ على محبةِ أوطانهم وعدمِ مغادرتهم لها، رغم معرفته وتقديره للظُّروفِ الصَّعبةِ الَّتي تحيط بهم (راجع بند 7)، والَّتي تحاول الكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ جاهدةً في إيجاِد حلولٍ سلميَّةٍ ودبلوماسيَّةٍ لها، ولكنها تحتاج أيضًا للتعبيراتِ المسيحيَّةِ الملموسةِ (مثل يومياتِ للصَّلاة مِن أجلِ الشَّرقِ الأوسطِ، وإمكانيَّةِ الحوارِ بين المسيحيين والمسلمين، ومبادراتِ المحبَّةِ، والتَّضامنِ الماديِّ والسِّياسيِّ والإنسانيِّ)[1]. إِنَّه يُطالبنا أيضًا بالبشارةِ والمحبةِ، أي برسالةِ الكنيسةِ (راجع البنود 84-91)؛ ويقول لنا: «لا تخافوا أو تخجلوا مِن أَنْ تكونوا مسيحيين» (بند 63)، «المسيحيُّ قبل كُلِّ شيءٍ شاهدٌ» (بند 67)[2].
أمَّا عن “الحوارِ المسكونيِّ” (الحوارِ المسيحيِّ-المسيحيِّ) و”الوَحدةِ المسكونيَّةِ” فقد كرَّس لهما البابا كثيرًا مِن المقاطعِ. لقد عبَّر عن إعجابه بـ”فسيفساءِ” الكنائسِ والجماعاتِ الكنسيَّةِ في الشَّرقِ الأوسطِ (راجع بند 11). وحثَّ الجميعَ على “المسكونيَّةِ الرُّوحيَّةِ” (الإيمانِ، الصَّلاةِ، التَّوبةِ، المحبَّةِ…) (راجع بند 11)، وعلى “مسكونيَّةِ الخدمةِ” (راجع بند 14). وشجَّع أيضًا “عملَ اللاهوتيين” مِن أجلِ الوَحدةِ بين الكنائسِ (راجع بند 13). وتحدَّث أيضًا عن “الاشتراكِ في القُدسيَّاتِ” (راجع بند 16)، مُذكِّرًا “كاثوليكَ الشَّرقِ الأوسطِ” (راجع بند 18) بـ”الدَّليلِ المسكونيِّ” (راجع بند 12). وخاطب كُلَّ أعضاءِ الكنائسِ والجماعاتِ الكنسيَّةِ في العالمِ، وخاصةً تلك الَّتي في الشَّرقِ الأوسطِ، قائلًا: «ينبغي، قبل كُلِّ شيءٍ، أَنْ يعودَ الجميعُ بشكلٍ أقوى إلى المسيحِ نفسه» (بند 15).
وبالنَّسبةِ إلى “الحوارِ مع أعضاءِ باقي الدياناتِ الأخرى” (راجع بند 19)، فقد تحدَّث عن عَلاقةِ المسيحيين باليهودِ (راجع البنود 20-22)، وعن عَلاقةِ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ بالمسلمين (راجع البندين 23-24)، مُؤكِّدًا على “الحوارِ الإِسلاميِّ-المسيحيِّ” (راجع بند 28)، ومُطالبًا بالاهتمامِ بـ”الحريةِ الدِّينيَّةِ”، و”حريةِ اتباعِ الضَّميرِ”، و”حريةِ العبادةِ” (راجع البندين 26 و34)[3]. وقد ذكَّر الجميعَ بأَنَّ اليهودَ والمسيحيين والمسلمين «يؤمنون بإلهٍ وَاحدٍ، خالقِ جميعِ البشرِ» (بند 19) وأَنَّه باستطاعةِ «الأديانِ أَنْ تلتقيَ معًا لخدمةِ الخيرِ العامِ وللمساهمةِ في تنميَّةِ كُلِّ شخصٍ وفي بناءِ المجتمعِ» (بند 28).
ولا يمكن لبابا الكنيسةِ الجامعةِ ألَّا يتحدَّث في زيارته الرَّسوليَّةِ هذه، وخاصةً في هذا “الإِرشادِ الرَّسوليِّ” عن «السَّلامِ في العالمِ، وفي الشَّرقِ الأوسطِ على وجهِ التَّحديدِ» (بند 10). وفي لّقاءه مع “أعضاءِ الحكومةِ ومؤسَّساتِ الدَّولةِ، والسِّلكِ الدِّبلوماسيِّ، والمسؤولين الدِّينيِّين وممثِّليِ عالمِ الثَّقافةِ” (القصر الجمهوريّ – بعبدا السّبت 15 سبتمبر ٢٠١٢) تحدَّث قداسته عن “التَّربيِّةِ على السَّلامِ لبناءِ ثقافةِ سلامٍ”، وعن عَلاقةِ كُلِّ هذا بالمجتمعِ وكرامةِ الإنسانِ والعدالةِ والخيرِ العامِ والحريَّةِ الدِّينيَّةِ[4]. وفي عظته أثناء قدَّاسِ بيروت مقابل البحرِ (16 سبتمبر 2012) تحدَّث عن الهُويَّةِ الحقيقيَّةِ ليسوعَ، كمسيحٍ مُتألمٍ، ومسيا خادمٍ مُطيعٍ، ومصلوبٍ وقائمٍ؛ ثُمَّ تحدَّث أيضًا عن المسيحيين كـخُدَّامٍ حقيقيين تَشبُّهًا بالمسيحِ وعن دورهم في خدمةِ العدلِ والسَّلامِ، وطالبهم بأَنْ يصيروا “خُدَّامًا للسَّلامِ وللمصالحةِ” في منطقةِ الشَّرقِ الأوسطِ[5]. وفي “الإِرشادِ الرَّسوليِّ” فقد أشار إلى الواقعين الجديدين المتضاربين الذين يختبرهما الشَّرقُ الأوسطُ، كباقي أنحاءِ العالمِ: “العَلمانيَّةِ” و”الأصوليَّةِ العنيفةِ” (راجع بند 29)، مُذكِّرًا بأَنَّ هناك عَلمانيَّةٌ مُتطرِّفةٌ وإيديولوجيَّةٌ وعَلمانيَّةٌ أخري إيجابيَّةٌ وهي تلك الَّتي «تعني تحريرَ المُعتقدِ مِن ثِقلِ السِّياسةِ، وإغناءَ السِّياسةِ بإسهاماتِ المُعتقدِ، بحفظِ المسافةِ اللازمةِ، والتَّمييزِ الواضحِ، والتَّعاونِ الَّذي لا غنى عنه، لكليهما» (بند 29). فـ”العَلمانيَّةُ الإيجابيَّةُ” إذن هي تلك الَّتي تنادي بالعَلاقةِ المُثلى بين السِّياسةِ والدِّينِ، أي عَلاقةِ الوَحدةِ والتَّمايزِ بين ما هو زمنيُّ وما هو روحيٌّ (راجع بند 29). وطالب أيضًا قداسته بنبذِ ورفضِ “التَّطرُّفِ الدِّينيِّ” بكُلِّ أنواعه (بند 30)، فـ«الأصوليَّةُ هي دائمًا تزييفٌ للدِّينِ. وهي تتعارض مع جوهرِ الدِّينِ، الَّذي يريد المُصالحةَ وخلقِ سلامِ اللهِ في العالمِ»[6].
وقد توقَّف قداسةُ البابا في “الإِرشادِ الرَّسوليِّ” وفي الأحاديثِ الَّتي ألقاءها بمناسبةِ زيارته للبنان الحبيب عند الكثيرِ والكثيرِ مِن القضايا الهامةِ الأخرى المُتعلِّقةِ بالعالمِ العربيِّ وكنائسه، ولكنني أرغب في التَّذكير بخمسةِ أمورٍ أخرى فقط، للتَّفكيرِ فيها وتأملها ودراستها: الإكليروسِ والعلمانيين (راجع البنود 39-57)، “العائلةِ والزَّواجِ” (راجع البنود 58-60)، “نساءِ الشَّرقِ الأوسطِ” (راجع البندين 60-
61)، “الشَّبابِ والأطفالِ” (راجع البنود 62-65)[7]، “كلمةِ اللهِ والصَّلاةِ واللَّيتورجيا والأسرارِ المُقدَّسةِ” (راجع البنود 5 و68-83).
[1] http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/speeches/2012/september/documents/hf_ben-xvi_spe_20120914_incontro-giornalisti_it.html
[2] «أيَّتها الكنائسُ الحبّيبة بالشرق الأوسط، انهلِي من ينبوع الخلاص الأصيل الَّذي تحقّق على هذه الأراضي الفريدة والمحبوبة بين الجميع! تقدَّمِي على خطى آبائك في الإيمان، الَّذين فتحوا، بثباتِهم وإيمانِهم، طريقاً لجواب البشريِّة على وحي لله! اكتشفِي في بهاء تنوّع القدّيسين، الَّذين أينعوا في أرضك، الأمثلةَ والشفاعةَ الَّتي تُلهم ردّكِ على دعوة الرَّبِّ للسير نحو أورشليم السماويِّة، حيث سيمسح الله كلَّ دمعة من عيونكم (راجع: رؤ ٢١، ٤)! لتكنِ الشركةُ الأخويِّةُ عضداً في الحياة اليوميِّة وعلامةً للإخوّة العالميِّة الَّتي جاء يسوع، الابنُ البكر بين كثيرين، لإقامتها. هكذا، في هذه المنطقة الَّتي شاهدت الأعمال واستقبلت الكلمات، يَستمرّ الإنجيلُ يُسمع صَداه كما فعل منذ أكثر من ألفيّ عام مضت، فليكن مُعَاشاً اليومَ وإلى الأبد!».
[3] Cfr. http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/speeches/2012/september/documents/hf_ben-xvi_spe_20120915_autorita_ar.html
[4] «إذاً الواجبُ الأَوَّل لفتح مستقبل سّلامٍ للأجيال القادمة، هو التّربيِّة على السّلام لبناء ثقافة سلام. التّربيِّة، في الأسرة أو في المدرسة، يجب أن تكونَ وقبل كلِّ شيء تربيِّةً على القيمِ الرّوحيِّةِ الَّتي تعطي عمليّةَ نقلِ المعرفة والتّقاليدَ الخاصّة بثقافة ما، معناها وقوَّتها. يمتلك الفكر البشريِّ الحسَّ الفطريِّ لتذوّق الجمال والخير والحقّ. إنّه الختمُ الإلهيُّ، بصمة الله فيها! من هذا الشوق الكونيّ يَنبع إدراك أخلاقيٌّ ثابتٌ وصادقٌ، يَضع دائما الشّخص في المركز […] التّربيِّةُ على السّلام ستشكّلُ كذلك رجالاً ونساءً كرماء وحقّانيِّين، ومنتبهين للجميع، ومهتمّين خاصّة بالأشخاص الأكثر ضعفاً. أفكارُ السّلام، وكلماتُ السّلام، وأفعالُ السّلام تخلق مناخاً من الإحترام والإستقامة والمودّة، حيث يمكن الاعتراف بالأخطاء والإهانات بالحقّ للتقدّم سويةً نحو المصالحة. ليفكّر رجالاتُ الدّولةِ والمسؤولون الدّينيِّون مَليِّاً في ذلك! […] للحريِّة الدّينيِّة بُعدٌ إجتماعيّ وسياسيّ لا غنى عنه للسلام! إنّها تروّجُ لتّعايش و حياة متناغمتين، من خلالِ الالتّزامِ المشترك في خدمة القضايا النبيلة وعبر البحث عن الحقيقةِ الَّتي لا تفرض نفسَها من خلال العنف، إنّما عبر “قوّة الحقيقةَ نفسها” (كرامة الإنسان، ١)، هذه الحقيقةَ الَّتي في الله».
[5] http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/homilies/2012/documents/hf_ben-xvi_hom_20120916_libano_ar.html
[6] http://www.vatican.va/holy_father/benedict_xvi/speeches/2012/september/documents/hf_ben-xvi_spe_20120914_incontro-giornalisti_it.html
[7] «الكنيسةُ تثقُ فيكم. إنّها تعتمدُ عليكم. كونوا شباباً في الكنيسة! كونوا شباباً مع الكنيسة! الكنيسة تحتاجُ لحماسكم ولإبداعكم! الفُتُوَّةُ هي وقت الاستلهام من المُثُل الرفيعة وهي فترةُ الدراسة للاستعداد لمهنة ما وللمستقبل. إنَّ هذا لمُهمٌّ ويحتاج للوقت. اسعَوا إلى ما هو جميل، وتذوَّقوا ما هو خيّر! اشهدوا لعظمة وكرامة جسدكم الَّذي “هوَ للرَّبِّ” (١ كو ٦، ١٣ب)»