روما، 23 مايو 2007 (ZENIT.org) – حاضر الكاردينال ريناتو رافايلي مارتينو، رئيس المجلس البابوي للعدالة والسلام حول موضوع “أهداف الكرسي الرسولي: الشخص البشري والعدالة والسلام” يوم الإثنين في 7 مايو 2007 أمام ديبلوماسيين من الدول الإسلامية وخبراء من القارات الخمس في الجامعة الغريغورية الحبرية، بدعوة من مؤسسة “غريغوريانا” ومعهد جاك ماريتان الدولي. ننشر في ما يلي القسم الأول من مداخلة الكاردينال مارتينو
“أهداف الكرسي الرسولي: الشخص البشري والعدالة والسلام”
مقدمة
إسمحوا لي أن أعرب عن سعادتي وامتناني للفرصة التي تقدمها لي المؤسسة الغريغورية ومعهد جاك ماريتان الدولي لكي أتحدث عن أهداف عمل الكرسي الرسولي من أجل تعزيز وحماية الشخص البشري والعدالة والسلام. بصفتي ديبلوماسياً، أمضيت ست عشرة سنة في نيويورك لكي أضفي على صرح الأمم المتحدة النفس الذي يحرك روما وروح الرسالة والتزام البابا الكبير يوحنا بولس الثاني والكرسي الرسولي الروماني. والإلتزام بهذا الإتجاه لم يكن يتأتى من سعي إلى البطولات أو الهيمنة بل يجد جذوره في الإنجيل نفسه الذي أصبح أمانة في يد الكنيسة التي أُوكلت إليها رسالة نشره.
إن الكنيسة وبالتالي الكرسي الرسولي أيضاً لا يشكلان قوة سياسية بالمعنى التقليدي، وإنما قوة أخلاقية. فالقوة الأخلاقية بالذات، لا القوة السياسية، هي ما يعطي الكرسي الرسولي القدرة على التحرك على الساحة الدولية. وبالفعل، فإن الإنسانية اليوم بحاجة ماسة إلى الإلتزام على الصعيد الأخلاقي، إضافةً إلى الصعيد السياسي. فهذا الأخير مهم طبعاً، بيد أنه غير كافٍ: فكما يشهد التاريخ، إن الأحزاب السياسية التي لا تعتمد على ثقافة راسخة للقيم الإنسانية مصيرها الزوال.
إن موقع الكرسي الرسولي المميز يسهل مصداقية تدخلاته التي لا تبتغي أي مصلحة خاصة كما يمكنكم أن تلاحظوا. وما يميز رسالة الكنيسة في المجال الإجتماعي هو التزامها لما فيه الخير العام للإنسانية بشتى الوسائل المتاحة لها.
معنى حضور
بالعودة إلى السنوات الستة عشر التي شرفني خلالها – باسم الكرسي الرسولي- أن أقوم بعمل مباشر لدى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، يمكنني أن أشهد شخصياً على العمل “المؤنسن” للديبلوماسية الفاتيكانية. فبالفعل، لقد حرص الكرسي الرسولي، وطوال نشاطاته في الأمم المتحدة، على نقل فكر البابا يوحنا بولس الثاني وعلى الإقتداء به. فبالإضافة إلى حضورهم اليومي في مختلف اللجان والمجالس التابعة للأمم التحدة، قام ممثلو الكرسي الرسولي بتأمين الجزء الأهم ولا شك من عملهم في أثناء انعقاد سلسلة مؤتمرات الأمم المتحدة وقممها التي وجهت السياسات المتعلقة بالمشاكل الإجتماعية والإقتصادية لهذا العصر وبمسائل حقوق الإنسان. فخلال عقدين، شارك الكرسي الرسولي في المؤتمر حول البيئة الإنسانية في ستوكهولم في العام 1972، وفي مؤتمر السكان في بوخارست في العام 1974، وفي مؤتمر فانكوفر حول المستوطنات البشرية في 1976 حيث نجح الكرسي الرسولي في إقناع الحاضرين بضرورة تخصيص مساحة لأماكن العبادة خلال تخطيط المستوطنات البشرية. وفي 1984، شارك الكرسي الرسولي في المؤتمر العالمي الثاني للسكان في مكسيكو، وفي مؤتمر المرأة في نيروبي في العام 1985. وقد تم إطلاق سلسلة جديدة من المؤتمرات مع مؤتمر القمة حول الأطفال في العام 1990 التي تلاها مؤتمر البيئة في ريو دي جانيرو في 1992 حيث دافع الكرسي الرسولي عن “حق الأشخاص في القيم الدينية والثقافية”. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكرسي الرسولي توصل إلى أن يتم صياغة عبارة من المادة الأولى من إعلان ريو بشأن البيئة والتنمية على هذا النحو: “يقع البشر في صميم الإهتمامات المتعلقة بالتنمية المستدامة”. وفي المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا في العام 1993 دافع الكرسي الرسولي عن المبدأ القائل بأن “جميع حقوق الإنسان نابعة من كرامة الإنسان وقدره النتأصلين فيه”. وفي العام 1996، شارك الكرسي الرسولي في مؤتمر الموئل الثاني في اسطنبول حيث دافع بنجاح عن الحق في مسكن محترم. وأود أيضاً أن أذكّر بمشاركته في مؤتمر روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية. وفي إطار هذه الفعاليات والتواريخ المهمة، إسمحوا لي أن أشيؤ إلى بعض الخطوط التي تبين حضور الكرسي الرسولي وعمله والتي تسمح لنا بأن نفهم على نحو أفضل تاريخاً ديبلوماسياً ناشطاً ومعقداً في آن معاً.
الدفاع عن حقوق الإنسان
إن نقطة الإلتزام الأولى للكرسي الرسولي على الساحة الدولية هي تعزيز حقوق الإنسان والدفاع عنها. وأود أن شير هنا إلى المفارقة/التناقض الموجودة/الموجود في التزام الكرسي الرسولي على جبهة حقوق الإنسان – الساخنة في مجمل الأحيان. لا يغيب عن أي منكم كم أن علاقة الكنيسة كانت – ولا تزال- متضاربة مع “أسباب المعاصرين” في هذا المجال بالذات. فحقوق الإنسان التي تم تطويرها كبرنامج تحرّر من قبل الكنيسة وضدّها، أصبحت اليوم، في ظل جوّ مشحون بالحذر والنزعة الفردانية، أحد الملفات الأكثر تجسيداً للإلتزام الكنسي في مجال حقوق الإنسان. فالكرسي الرسولي يدعم ويشجع الدفاع عن حقوق الإنسان في كافة نشاطاته على الصعيد العالمي، ويحدد في هذه الحقوق الأرضية الملائمة لحوار بناء مع هيئات ثقافية وقانونية وسياسية ودينية من أجل تعزيز كرامة الإنسان.
ولا شك في أنكم جميعاً تذكرون مساهمة الكرسي الرسولي الحاسمة – وهي ثمرة م
عارك ضارية خاضها في مؤتمري القاهرة وبيجين- كيما يتم الإعتراف بحق الحياة منذ لحظة الحمل وتكريس كرامة المرأة كشخص. ولعله من المفيد أن نتوقف عند هذا المشهد التاريخي لنشاط الكرسي الرسولي. فكما تعرفون، انعقد مؤتمر القاهرة حول السكان والتنمية في العام 1994 حيث اضطرّ الكرسي الرسولي إلى مواجهة وضع كانت حقوق الإنسان فيه عرضة للإنتهاكات.
لقد وحدت جماعات راديكالية جهودها مع جهود جماعات أخرى تحبّذ التنظيم السكاني الجامح والعشوائي بهدف تحويل الأنظار عمّا كان يُفترض أن يشكل محور مؤتمر “السكان والتنمية” باتجاه “الحقوق الإنجابية للمرأة”. وفي المفاوضات بشأن مشروع خطة عمل المؤتمر، تعرضت صورة العائلة التقليدية للهجوم والإهانة، كما مورست ضغوط في القاهرة أيضاً لكي يتمّ اعتماد “الحق العالمي في الإجهاض”. ولمعالجة هذا الوضع، خاض وفد الكرسي الرسولي مفاوضات مكثفة وشائكة. وفي نهلية الأمر، لم يتم اعتماد أي حق في الإجهاض، حتى إن إحدى فقرات وثيقة القاهرة تحرّم تحديداً اللجوء إلى الإجهاض “كوسيلة للتنظيم العائلي”. غير أن المؤتمر خلُص إلى طلب مليارات الدولارات لتُستثمر في “الصحة الإنجابية” و”التنظيم العائلي”، في حين أنه بالكاد ألمح إلى تخصيص “أموال إضافية” قد تكون ضرورية لتنمية الدول الفقيرة.
وفي بيجين، استعاد المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في العام 1995 عدداً من المشاكل التي كانت محطّ خلاف بين المندوبين في القاهرة. وبالإضافة إلى العمل على قضايا مشروعة، كالقضاء على التمييز ضد المرأة، عملنا على التصدي لمجموعات راديكالية كانت تقول ب”حق” المراهقين بالإطلاع على الخدمات الطبية من دون “تدخل” أهلهم وكانت تدخل عبارة “بكل أشكالها” كلما وردت لفظة “العائلة” في خطة العمل. ومرة جديدة، مورست ضغوط من أجل أن يعترف المؤتمر للمرأة بحق إنساني في الإجهاض. وقد تمكن الكرسي الرسولي، بدعم من مجموعة صغيرة من الدول، من أن يستبعد، مرة أخرى، الإعتراف بالإجهاض “كحق إنساني” وأن يضمن أن يتم الإشارة إلى مسألتي “العائلة” والأمومة” في وثيقة المؤتمر.
من البداية إلى النهاية، عرف البابا يوحنا بولس الثاني أن المشاكل في مؤتمري القاهرة وبيجين ذات صلة بحقوق الإنسان. وقد تابع بانتباه من روما مجريات هذين المؤتمرين وقدّم الدعم لوفد الكرسي الرسولي عبر تدخله مراراً وتكراراً. وقد شعر بوجه خاص بالمخاطر التي تتهدد كرامة المرأة والحق الأساسي في الحياة. وقبل بدء أعمال مؤتمر بيجين، ذكّر المشاركين بالتحذير الذي تضمنته رسالة “السلام في الأرض” Pacem in terris: “إن أساس أي مجتمع منظم ومزدهر هو المبدأ القائل بأن كل شخص بشري هو شخص، أي طبيعة تتمتع بذكاء وإرادة حرة. ومن هذا المنطلق بالذات فهو له حقوق وواجبات يتأتيان كلاهما، معاً ومباشرةً، من طبيعته التي هي بالتالي عالمية وثابتة وغير قابلة للتصرف”.
وما كان البابا يوحنا بولس الثاني يقصده بقوله إن الحقوق الإنسانية متأصلة بالشخص البشري هو أننا جميعاً أصحاب هذه الحقوق منذ ولادتنا. واسمحوا لي أن أقرأ على مسامعكم ما جاء على لسان البابا الراحل في هذا الصدد: “إن الإعلان العالمي واضح: فهو يعترف بالحقوق التي يعلنها ولا يمنح هذه الحقوق، إذ إنها جزء لا يتجزأ من الشخص البشري ومن كرامته. وبالتالي فإن أحداً لا يستطيع أن يحرم شخصاً آخر من حقوقه، أياً يكن هذا الشخص، لأن ذلك يعني التعدي على طبيعته. إن كل الأشخاص، من دون استثناء، متساوون في الكرامة. وللسبب عينه، فإن هذه الحقوق يجب أن تُراعى في كافة مراحل الحياة وفي كل المستويات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية. إنها تشكل وحدة متكاملة تهدف بوضوح إلى تعزيز كل أوجه خير الإنسان والمجتمع”.
والإلتزام العميق على جبهة الحق في الحياة ولتعزيز كرامة المرأة لا يعني أن الكرسي الرسولي لم يكن لديه لفتة عامة إلى القضايا المتصلة بتعزيز حقوق الإنسان. وفي هذا المجال، إسمحوا لي أن أتوقف عند ناحية كميّة من التزام الكرسي الرسولي وهي الناحية المتصلة بإنفاذ الحقوق الإنسانية التي يكثر التغني بها من دون أن يتم احترامها في المقابل. وبالفعل، ففي رسالة اليوم العالمي للسلام في الأول من كانون الثاني/يناير 2003 التي جاءت تذكّرنا بالذكرى الأربعين لصدور الرسالة العامة “السلام على الأرض” –وهي الوثيقة المرجع للكنيسة الكاثوليكية حول حقوق الإنسان النابعة من قلب البابا يوحنا الثالث والعشرين- كانت صرخة تنديد البابا يوحنا بولس الثاني تدوّي بشكل حزين ولافت إلى حدّ بعيد حين قال: “نحن نشهد تعمّق هوة مقلقة بين مجموعة من “الحقوق” الجديدة المروّج لها في المجتمعات المتقدمة تكنولوجياً وحقوق الإنسان الأساسية التي لا تُحترَم حتى الآن، خاصةً في المجتمعات المتخلفة: أنا أفكر، على سبيل المثال، في الحق في الغذاء، ومياه الشفة، والمسكن، وتقرير المصير، والإستقلال. إن السلام يتطلب تقليص هذه الهوة بشكل طارىء والتخلص منها بشكل نهائي “.