“من يحبني يحفظ كلمتي” (يو 14: 23)
المحبة هي البرهان الذي لا يدحض على محبة الله والناس. ولكن المحبة يجب أن تترجم لا بأقوال وحسب، بل بأعمال. وهذا ما شدد عليه يسوع المسيح عينه عندما قال على لسان القديس يوحنا الذي ورد في رسالته الأولى قوله: “أيها الأبناء، لا تكن محبتنا بالكلام او باللسان، بل بالعمل والحق”. المحبة في انجيل يسوع المسيح، وفي التالي في الدين المسيحي، هي الأول والآخر، الألف والياء. ولو حاولنا، على ما قال أحد كبار شراح الانجيل، حذف كلمة محبة من الانجيل لكان علينا أن نحذف الانجيل في مجمله. ولكن هذه المحبة تضاءلت بحيث بات يصح القول مع السيد المسيح عينه:”متى جاء ابن الانسان، أتراه يجد ايمانا على الأرض؟ وفي امكاننا أن نضيف محبة لأنها وليدة الايمان.
ونواصل الحديث عن العائلة وما تعانيه بخاصة في هذه الأيام من صعوبات قد تفسد ما يجب أن يسودها من جو تفاهم وتعاون ومحبة.
1- الجنين كائن بشري
يقوم قادة الحركة المؤيدة للاجهاض باخضاع الواقع خارج العقل لأحكامهم. وبدلا من تعريف الحقيقة كتماشي أحكامنا العقلية مع الواقع الموضوعي، يحددون هذه الحقيقة كموافقة الواقع مع نظرتهم لهذا الواقع. بالنسبة اليهم، تعني الكلمات ما أريد لها أن تعني. وانتشرت حملة تشريع الأجهاض في الولايات المتحدة، وهي حملة لم يعرف العالم مثلها منذ عهد النازية في ألمانيا. غير أن هناك تقدما في علم الطب بالاضافة الى الاستنباطات الجديدة، أصبح يفسح في المجال للاهتمام بالجنين. وأصبح هذا أكثر واقعية، اذا جاز التعبير. وهؤلاء الناس يرفضون، على الرغم من البراهين العلمية، الاقرار بخطأهم، وهم يتنكرون للقيم التي نعترف بها. والخطأ الأساسي هو أنه عندما “تمسي الحرية الراغبة في تحرير نفسها من كل تقليد وسلطة، تقفل الباب في وجه أكثر البراهين جلاء للحقيقة الموضوعية والعلمية التي تشكل أساس الحياة الخاصة والاجتماعية حين يتخلى الانسان عن المرجع الوحيد وغير قابل للجدل، لخياراته الخاصة الحقيقية حول الخير والشر، ويعتمد فقط على رأيه الشخصي، والمتغير، أو مصلحته الأنانية ونزوته” .
ان الحركة المؤيدة للاجهاض، بدلا من العمل بوحي قول الانجيل: “تعرفون الحق والحق يحرركم”، أصبح أتباعها يقولون: “تعرفون الدعاية المغرضة، وهي تحرركم شرعا لتقتلوا أو لا تقتلوا البشر الأبرياء”، وهكذا تتنكر الحرية لذاتها، وتدمر ذاتها، وتصبح عاملا يؤدي الى دمار الآخرين، عندما ترفض الاعتراف برابطها الأساسي بالحقيقة، وترفض احترام هذا الرابط”.
ليكون العمل مطابقا ومبادئ الأخلاق، يجب أن يكون الشخص الذي يعمله حرا في عمله، وحرا في خياراته بين أمرين. وقبل كل، يجب أن يتوجه نحو الخيور التي تقوده الى كماله من خلال المحبة. ويميل مؤيدو الاجهاض الى التنازل عن الخير والحب، بدافع من مراعاة شعور الغير: الارادة بالنسبة اليهم لا تعني حب الخير، بل تعني أن يكون الشخص راغبا، عاملا بارادته وحرا. وهكذا يصبح الخيار فعلا شخصيا أو أنانيا ومستقلا.
2– الأنانية القاتلة
ولكن في ممارسة حرية الاختيار، نكتشف بأننا نعتمد على الحقيقة، ولسنا دائما مستقلين وأحرارا. وبدلا من تقبل أولوية محبة الله، ومحبة القريب، على محبة الذات، يفضل مؤيدو الأجهاض الحرية الفردية لمحبة الذات، ويركزون على حريتهم الشخصية، ويحولون انتباههم الى ذواتهم، بدلا من الانتباه الى الغير. والمبدأ الأدبي الأكبر ليس الأنانية أو الحرية، بل محبة الأخرين. ويسوع المسيح أجاب عندما سئل: ما أكبر الوصايا؟: أن تحب الرب الهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. هذه هي الوصية العظمى، والثانية التي تشبهها هي أن تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين تتعلق الشريعة وكتب الأنبياء”.
محبة الله والقريب أمر هام جدا في الحياة المسيحية، بحيث انه اذا كان هناك قيمة أخرى كالحرية، والسلطة، واللذة، والغنى، والجاه، وحب الذات، لها الأفضلية على المحبة، نكون قد تخلينا عن المسيح، وعن كل التقليد المسيحي وفضلنا عقيدة أخرى. والله هو في جوهره محبة، قبل أن يكون حرية، أو غير متناه، أو دون حدود، أو كلي القدرة، أو السعادة، او السيادة. وبما أننا خلقنا على صورة الله، ومدعوون الى التشبه به، أكثر فأكثر، فيجب على كمالنا أن يتبع الأولوية ذاتها.
3– تفضيل الموت على الحياة
ومؤيدو الاجهاض، بدلا من أن يمارسوا محبة الغير، ويضحوا في سبيله، يفضلون اللذة الشخصية، والاجهاض على الواقع القائل ان معظم حالات الحمل غير المرغوب فيها تنبثق من علاقات جنسية مع شركاء متعددين، وليس عبر اقتراح تحمل مسؤولية أكبر، واحترام الانسان وتشجيع الأخلاقية الحقيقية، والخير، والحب، بل تأييد وسائل منع الحمل، والعقم، والاجهاض. وبدلا من حل المشكلة، تؤدي مسائل منع الحمل والاجهاض الى تفاقمها.والحركة المؤيدة للاجهاض، بدل أن تفضل الحياة على الموت، تفضل الموت على الحياة. وهي تحول دون امكانيات الحياة بوسائل منع الحمل، والاجهاض، وتقضي على المتألمين، والمعاقين، لمنع تكاثر السكان غير المنتجين. وبعثات الأمم المتحدة المقبلة من بلدان متطورة التي يقودها أناس من الحركة المؤيدة للاجهاض، حاولت أن تفرض على البلدان الآخذة في التطور تدابير جذرية ضد الحياة، وهي في هذا الاسلوب تنتهك انتهاكا مفضوحا معتقداتهم الثقافية والدينية وسيادتهم الوطنية. وأمام الارشاد القائل، على ما يقول سفر تثني
ة الاشتراع، قد وضعت أمامكم الحياة والموت، البركة واللعنة: فاختاروا الحياة لتحيوا أنتم ونسلكم، اذ تحبون الرب الهكم، وتطيعون صوته، وتتمسكون به، لأنه هو حياتكم”. ومؤيدو الاجهاض اختاروا الموت على الحياة. وفقا لهذا المنطق الأعوج، وقد عملوا ما بوسعهم لاستبدال ” ثقافة الحياة بثقافة الموت”. ان المحكمة العليا في الولايات المتحدة سنة 1973 شرعت الاجهاض، فتجاهلت تقليدا عمره ألفان وخمسمائة سنة سارت عليه البشرية بتأكيدها أن الجنين انما هو “حياة احتمالية”، وليس هناك اجماع علمي وديني أو فلسفي، على ما يقولون، يتعلق بانسانية الجنين. وهكذا افترضت المحكمة عدم انسانيته، على الرغم من أن العلم يؤكد عكس ذلك. وهكذا ان كثيرا من البلدان اتبعوا الولايات المتحدة على هذه الطريق، وما لبثوا أن شرعوا الاجهاض.
ولكن الذين يسمحون بالاجهاض يخالفون بطريقة سافرة قسم الطبيب الشهير أبوقراط الذي ظل محترما طوال ألفين وخمسمائة سنة، وهذا القسم كان يؤديه جميع الذين يمارسون رسالة الطب، وظل معمولا به حتى القرن العشرين، فجاء مؤيدو حركة الاجهاض فقاموا بحذف هذا القسم. وهو يقول”:أقسم بأني لا أعطي اي دواء قتال، إذا طلب مني ذلك، ولا اقترحه، وبالطريقة عينها، لن أعطي أية امرأة أي دواء يجهضها”.
هناك عدد ليس بيسير من مؤيدي حركة الاجهاض يرفضون النظرة المسيحية الى الكائن البشري، الآتي من الله بالخلق، والراجع اليه بفضل فادينا وشريعته، شريعة المحبة. وهم قد اتبعوا نظرية علمانية بعيدة كل البعد عن الله. وهي تقول بأن الانسان جاء من الأرض وهو يعود اليها. والانسان، ما دام على الأرض، فهو سيد نفسه، وسيد كل ما هو على وجه الأرض. وفي عالم تحرر من الله، وشرائعه، ولا يحتاج الى مخلص، فهو، على ما يزعمون “مخلص نفسه”. وقد وصف البابا يوحنا بولس الثاني هذه النظرية في قوله عنها انها “تجربة عليا” لأنها تذهب أبعد من كل ما عداها، وهي تكشف عن جذور كل التجارب.
ان الدهرية المتطرفة، أي النظرية الالحادية، تنفي وجود الله، والوحي، والعائلة، والشعب المختار، والكنيسة، والمجتمعين اللذين تبين ان الله هو من أسسهما وقدسهما. وخلافا للمجتمعات التي أسسها البشر، لتعزيز القيم الانسانية، ان المجتمعات الثلاث التي أسسها الله هي الأدوات الخاصة لما في امكانه وحده أن يعطيه: أي مواهبه الفائقة الطبيعة من حكمة، وحياة، ومحبة. وفي القرن العشرين، قاست هذه المجتمعات من نير الالحاد الذي بذل جهده لحذفها من الوجود لمصلحة الفرد والدولة، وهذا ما أدى الى انحياز تام نحو الفردية واستبداد الدولة، وولد الفردية واستبداد الدولة، على ما أظهرته الشرائع المطلقة التي ادعت أنها تشكل القاعدة الاجتماعية والأخلاقية.
اذا صفا جو العائلة، سادتها الطمأنينة والسعادة. واذا اعتكر، حل الخلاف بين أعضائها وتفرقوا وذهب كل في سبيله، وهذا أدهى ما يصيب عائلة مبنية على المحبة والاحترام المتبادل.
والوطن عائلة كبيرة يجب أن يقوم بين أعضائها ما يقوم بين العائلات التي تعي مسؤولياتها، من تضامن، وتعاضد، ومحبة. ولكن ما نراه هو غير ما نتمناه. ونرى تزاحما على حمل السلاح، وسباقا على الوظائف في الدولة، وخروجا على القوانين، وامتهانا لأصول المواطنية السليمة. وكان يجب أن تدور رحى القتال هنا وهناك، وتحصد القنابل بعض اللبنانيين، وتهددهم في مجملهم، لنستفيق مما نحن فيه، وننتظم وراء الجيش اللبناني الذي يفتدي لبنان بدماء أبنائه، فيموتون ليحيا الوطن.
عسى أن تكون المصيبة قد علمتنا ما يجب أن نتلافاه لتستقيم أحوالنا، ونتعلم كيف يجب أن نعيش معا في جو من التعاون المخلص، والتضامن الكامل. والوطن كسقف البيت، اذا سقط، أصاب جميع ساكنيه. فعسى ان نعي هذه الحقيقة ونعمل بوحيها لننهض بالوطن”.