* * *
القديس أثناسيوس الإسكندري
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إذ نتابع مراجعتنا لكبار معلمي الكنيسة القديمة، نوجه اليوم انتباهنا إلى القديس أثناسيوس الإسكندري. لقد تم الاحتفاء بهذا الرائد الحق في التقليد المسيحي، بعد سنوات قليلة من موته، كـ “عمود الكنيسة” وذلك على يد اللاهوتي الكبير وأسقف القسطنطينية غريغوريوس النزينزي (خطاب 21، 26)، ولقد تم اعتباره دومًا مثالاً للإيمان القويم (الأرثوذكسية)، في الشرق والغرب على حد سواء.
فلم يكن من باب الصدفة أن جان لورنزو برنيني قد وضع تمثاله بين معلمي الكنيسة القديسين الأربعة في كنيسة الشرق والغرب – مع أمبروسيوس، يوحنا فم الذهب وأغسطينوس – الذين يحيطون في أوج البازيليك الفاتيكانية بعرش القديس بطرس.
من دون شك، كان أثناسيوس أحد أهم وأجلّ آباء الكنيسة القديمة. ولكن فوق كل شيء، هذا القديس هو اللاهوتي المولع بتجسد اللوغوس، كلمة الله، الذي – كما تقول مقدمة الإنجيل الرابع – “صار جسدًا وحل في ما بيننا” (يو 1، 14). ولهذا السبب بالذات، كان أثناسيوس من أشرس المناهضين للبدعة الأريوسية التي كانت حينها تهدد الإيمان بالمسيح، جاعلة منه خليقة “وسيطة” بين الله والإنسان، بحسب ميل يتردد في التاريخ ونراه عاملاً بأشكال مختلفة في أيامنا أيضًا.
ولد في الإسكندرية، في مصر، حوالي العام 300، وتلقى أثناسيوس ثقافة عالية قبل أن يصبح شماسًا وأمين سر أسقف المدينة المصرية الكبرى، ألكسندر.
وكمساعد الأسقف المقرب، شارك الإكليريكي الشاب في مجمع نيقيا، وهو اول مجمع ذو طابع مسكوني، وقد دعا إليه الأمبراطور قسطنطين في مايو 325 لكي يضمن وحدة الكنيسة. وهكذا تمكن آباء نيقيا من معالجة مسائل عدة، وخصوصًا المشكلة التي نتجت منذ بضعة سنوات نتيجة لوعظ الكاهن الاسكندري أريوس.
فهذا الأخير، كان يهدد بنظرياته الإيمان بالمسيح، مصرحًا بأن اللوغوس لم يكن إلهًا حقًا، بل إلهًا مخلوقًا، كائنًا “وسيطًا” بين الله والإنسان، وهكذا يبقى الإله الحق دائمًا غير ممكن الوصول إليه من قبلنا.
أجاب الأساقفة المجتمعون في نيقيا وأثبتوا قانون الإيمان الذي تم إكماله في ما بعد في مجمع القسطنطينية الاول، وقد بقي في تقليد مختلف الطوائف المسيحية وفي الليتورجية كـ “قانون الإيماني النيقوي-القسطنطيني”.
في هذا النص الأساسي – الذي يعبّر عن إيمان الكنيسة غير المنقسمة، والذي نتلوه حتى في أيامنا، كل أحد، في الاحتفال الافخارستي – تظهر الكلمة اليونانية (homooúsios)، وباللاتينية (consubstantialis): وهذه الكلمة تعني أن الابن، اللوغوس، هو “من نفس جوهر” الآب، هو إله من إله، هو جوهره، وهكذا يجري تسليط الضوء على إلوهة الابن الكاملة، التي كان الأريوسيون يرفضونها.
وبموت الأسقف ألكسندر، أصبح أثناسيوس، عام 328، خليفته كأسقف الإسكندرية، وبين فورًا عن عزمه في دحض كل المراوغات مع التعاليم الأريوسية التي أدانها مجمع نيقيا.
إن تصلبه وقساوته، رغم ضرورتهما ضد الذين عارضوا انتخابه إلى الأسقفية، وخصوصًا ضد اعداء القانون النيقاوي، قد أديا إلى خلق عداوة ضارية تجاهه من قبل الأريوسيين ومحبذيهم.
وبالرغم من نتيجة المجمع الواضحة، التي صرحت بوضوح بأن الابن هو من نفس جوهر الآب، ما لبثت الأفكار الخاطئة أن عادت إلى الظهور بعد برهة من الزمن – وفي هذا الوضع تمت إعادة تأهيل أريوس نفسه – وتم دعم هذه الأفكار لأسباب سياسية من قبل قسطنطين، وابنه قسطنط الثاني من بعده.
فالامبراطور الذي لم يكن ليهتم بالحقيقة اللاهوتية بقدر اهتمامه بوحدة امبراطوريته ومشاكلها السياسية، أراد تسييس الإيمان، وجعله أسهل منالاً وفهمًا – بحسب رأيه – لجميع محكوميه في الامبراطورية.
وهكذا، فالأزمة الأريوسية التي بدا وكأنها قد انحلت خلال مجمع نيقيا، استمرت بالحقيقة لعدة عقود، وسط احداث عسيرة وانقسامات مؤلمة في الكنيسة.
ولخمس مرات – خلال 3 عقود -، بين 336 و366 – اضطر أثناسيوس إلى هجر مدينته، وأمضى 17 سنة في المنفى وتألم لأجل الإيمان. ولكن خلال غيابه الجبري عن الإسكندرية، تمكن الاسقف من نشر الإيمان النيقاوي ومن الدفاع عنه في الغرب، في تريفري أولاً وفي من ثم في روما، كما ونشر قيم الحياة الرهبانية التي اعتنقها في مصر الناسك الكبير أنطونيوس عبر خيار حياة حظي دومًا بسند وقرب أثناسيوس.
لقد كان أنطونيوس، عبر قوته الروحية، الشخص الأهم في مساندة إيمان القديس أثناسيوس. وبعد أن تم تثبيته بشكل نهائي في كرسيه، تمكن الأسقف الإسكندري من العمل على إحلال السلام الديني ومن تنظيم الجماعات المسيحية. مات في 2 مايو 373، اليوم الذي نحتفل فيه بذكراه الليتورجية.
إن أشهر مؤلف عقائدي للأسقف الإسكندري القديس هو “في تجسد اللوغوس”. الكلمة الإلهي صار جسدًا مثلنا لأجل خلاصنا. يقول أثناسيوس في هذا المؤلف عبارة صارت مشهورة، وهي أن الكلمة “صار إنسانًا لكي نصير نحن الله؛ لقد أصبح منظورًا في الجسد، لكي ننال نحن فكرة عن الآب غير المنظور، وقد تحمل هو ذاته عنف البشر لكي نرث نحن عدم الفساد” (54، 3).
فبقيامته، أفنى الرب الموت كما لو كان “قشًا في النار” (8، 4). إن الفكرة الاساسية في لاهوت أثناسيوس بأسره هي أنه من الممكن الوصول إلى الله. وليس إلهًا ثانويًا، بل الإله الحق، ومن خلال شركتنا مع المسيح، نحن نستطيع أن نتحد حقًا بالله. لقد أصبح حقًا “الله معنا”.
ومن بين الكتابات الأخرى لأب الكنيسة العظيم هذا – والتي يرتبط معظمها بالأزمة الأريوسية – نذكر 4 رسائل وجهها إلى صديقه سر
ابيون، أسقف ثمويس، عن ألوهية الروح القدس، التي يجري الإقرار بها بوضوح، وحوالي 30 رسالة “عيدية”، موجهة في مطلع كل عام إلى الكنائس والأديرة في مصر للإعلام بتاريخ عيد الفصح، ولكن بوجه خاص، لضمان الرباط بين المؤمنين، مقويًا إيمانهم ومعدًا إياهم للاحتفال العظيم.
وأخيرًا، إن أثناسيوس هو كاتب نصوص تأملية حول المزامير، حظيت بانتشار واسع في ما بعد، وخصوصًا لمؤلف أصبح كتابًا واسع الرواج في الأدب المسيحي القديم: “حياة أنطونيوس”، أي سيرة القديس أنطونيوس أب الرهبان، التي كتبها بعد موت هذا القديس بقليل، عندما كان أسقف الإسكندرية المنفي يعيش مع رهبان الصحراء المصري.
لقد كان أثناسيوس صديقًا كبيرًا للناسك، لدرجة أنه نال كحصته من الميراث، واحدة من فرو المعز اللتين كانتا باستعمال أنطونيوس، إضافة إلى الرداء الذي كان هو، أسقف الإسكندرية، قد منحه إياه قبلاً.
وانتشرت شهرة الكتاب سريعًا وتم نقله إلى اللغة اللاتينية فورًا لمرتين، ومن ثمة إلى لغات شرقية أخرى.
وقد ساهمت السيرة المثالية لهذه الشخصية العزيزة على التقليد المسيحي في نشر الحياة الرهبانية، في الشرق وفي الغرب.
ليس من باب الصدفة أن قراءة هذا النص في ترفيري، ستكون في محور السرد المؤثر لارتداد عاملين في الامبراطورية، الذي يضعه أغسطينوس في اعترافاته (8، 6، 15) كتمهيد لارتداده هو.
إلى جانب ذلك، كان أثناسيوس نفسه واعيًا بوضوح لمدى التأثير الذي كان بإمكان شخصية أنطونيوس النموذجية القيام به في حياة الشعب المسيحي.
فهو يكتب في ختام الكتاب: “كونه كان معروفًا في كل ماكن، ومقدرًا ومشوقًا لدى الجميع، حتى لدى الذين لم يروه قط، لهو دلالة على فضيلته وعلى نفسه التي كانت خليلة الله. فبالواقع، لم يكن أنطونيوس معروفًا بفضل الكتابات أو بفضل الحكمة الأرضية أو بفضل قدراته، بلا فقط نظرًا لتقواه تجاه الله. وما من أحد يستطيع أن ينكر أن هذا الأمر هو عطية من الله. فكيف كان ممكنًا سماع الحديث في اسبانيا وغاليا وروما وإفريقيا عن هذا الرجل الذي عاش منفردًا بين الجبال، ما لم يكن الله نفسه هو الذي عرّف به في كل أين، كما يفعل تعالى مع كل الذين ينتمون إليه، وكما سبق وأعلن لأنطونيوس منذ البدء؟ فحتى لو قام هؤلاء بالأمور في السر ولو أرادوا أن يبقوا في الخفاء، يقوم الرب بالكشف عنهم كسراج، لكيما يعرف الذين يسمعون بهم أنه من الممكن العيش بحسب الوصايا فيتشجعوا في المسير في سبيل الفضيلة” (حياة أنطونيوس، 93، 5- 6).
أجل أيها الإخوة والأخوات! لدينا الكثير من الدوافع للعرفان تجاه القديس أثناسيوس. إن حياته، كحياة أنطونيوس وعدد لا يحصى من القديسين، تبين لنا أن “من يذهب نحو الله لا يبتعد عن البشر، بل يصبح قريبًا منهم حقًا” (الله محبة، 42).