في معرض إصغائنا لآباء الكنيسة وتعليمهم الروحي الخصب، أراد واعظ الدار الرسولية اليوم التوقف للتأمل معًا بأسلوب الآباء في قراءتهم للكتاب المقدس وفهمهم لمعناه الأعمق.
في مطلع عظته الخامسة لزمن الصوم، أشار الأب رانيرو كانتالامسا الكبوشي إلى أن مقاربة الكتاب المقدس في العصر الحديث حملت إلى نتائج فقيرة ومُفقرة للكتاب، إذ نظرت إليه من الناحية الأرضية والنقدية فقط، متناسية طبع كلمة الله الفريد. وبالتالي توصلت إلى نتائج غير كافية، تمامًا كما كانت النظرة الأرضية البحت إلى يسوع مخيبة لأنها حملت إلى النظر إلى يسوع كمجرد مُصلح ديني عبقري، لا أكثر ولا أقل.
في وجه هذه النظرة المجتزأة، تقدم الكنيسة فهمها الشامل لكلمة الله وخبرتها لها. فالكنيسة تحمل خبرتها أيضًا، خبرة تتم بالروح القدس وتُظهر ثمارها صحتها وتشهد لها!
كيف يستطيع الآباء أن يساعدوننا على فهم الكتاب المقدس وعلى قراءته؟
للجواب على هذا السؤال اختار الأب كنتالامسا القديس غريغوريوس الكبير محاورًا ومعلمًا في هذه العظة.
إن الآباء، في قراءتهم للكتاب المقدس إنما يتبعون الخط الذي بدأه يسوع والتلاميذ. وعليه “فإن رفض أسلوب التأويل الكتابي المعتمد من الآباء هو رفض لأسلوب يسوع بالذات وأسلوب الرسل أيضًا!”. فيسوع، في لقائه مع تلاميذ عماوس يتحدث إلى التلميذين عما يشير إليه في التوراة والأنبياء. والرسل، عندما يتحدثون عن يسوع يقولون: “لقد وجدنا ذلك الذي تحدث عنه موسى والأنبياء” (يو 1، 45).
عندما يقول يسوع على الصليب: “كل شيء قد تم”، يتحدث أيضًا عن تمام الكتاب المقدس واكتمال النوؤات القديمة.
إنجيل لوقا يحدثنا عن أن يسوع يفتح أذهان الرسل والتلاميذ لفهم الأسفار المقدسة (راجع لو 24، 45). هناك إذًا فهم جديد يأتي من عمل الروح القدس.
أوريجانوس هو المعلم الكبير الذي يطبق القراءة الروحية على نصوص الكتاب المقدس بطريقة مدروسة ومنهجية. يصرح المعلم الكبير بهذا الشأن أن الوقائع التاريخية التي يسردها العهد القديم تشير إلى حقائق روحية عميقة يجب على المؤمن التوصل إليها.
ويتوصل القديس غريغوريوس الكبير إلى توثيق وتثبيت أسلوب قراءة للكتاب المقدس. يرى هذا الأسلوب في الكتاب أربعة أبعاد ومعانٍ مختلفة. يقول القديس في عظاته في سفر النبي حزقيال: كلمات الكتاب المقدس لها زوايا أربع. ففي كل حدث من الماضي هناك البعد الحرفي، أي ما يُتلى عن الماضي. البعد الأخلاقي، أي ما يجب فعله، البعد النهيوي، أي ما يتلى عن المستقبل، مستقبلنا الأبدي، والبعد المسيحاني والرمزي، أي البعد الذي يشير إلى يسوع المسيح في كل الكتب المقدسة.
من هذا المنطلق تم ابتكار مقولة مقتضبة في العصر الوسيط للتعبير عن هذه المعاني الأربعة: “الحرف يعلمك الوقائع، الرمز يعلمك الإيمان، البعد الأخلاقي كيفية التصرف، والبعد النهيوي ما يجب أن تتوق إليه”.
ماذا يمكننا أن نتعلم من الآباء؟
يقول لنا الكاردينال دولوباك، الذي كان من أكبر عارفي ومحبي التفسير الآبائي بأنها لا يمكننا أن نتبنى تفسيرهم تمامًا كما كانوا يقومون به منذ أكثر من 1500 عام. ويضيف قائلاً أنهم لو عاشوا في عصرنا لكانوا من أكثر المتحمسين في استعمال الاكتشافات الحديثة في هذا المجال.
فما لا يمكن قبوله من تعليمهم هو قناعتهم بأنهم يستطيعون تطبيق مبدأ المعاني الأربعة على كل كلمة وحرف من الكتاب المقدس.
ولكن يبقى دومًا أبعاد هامة من قراءتهم:
– هي قراءة في الإيمان. وهم يدعوننا للتمييز بين نوعين آنين من القراءة: قراءة في الإيمان وقراءة بلا إيمان!
– الآباء يميزون بين قراءة شخصية وقراءة غير شخصية للكتاب المقدس.
– الآباء يؤمنون أن “كل الكتاب المقدس هو موحى من الله” (2 تيم 3، 16)، أي أن الكتاب المقدس فيه روح الله، يمكننا أن نتواصل مع الروح القدس وأن نحصل على الروح القدس (كما يعلم القديس أمبروسيوس).
– يشبه القديس غريغوريوس الكتاب المقدس بحجر الصوان. فالحجر لوحده بارد، ولكن إذا ما جعلناه يحتك بحجر صوان آخر، يُشعل النار. وكذلك الكلمة عندما نفسرها على ضوء كلمة أخرى تضحي نارًا ونورًا.