" هل الإنسان قدّوسٌ بطبيعته كمـــا أنّ الله قدّوس جوهريّا ؟! " .. دعوة الله للإنسان هي دعوةٌ مفاجئة

رياضة روحيّة ألقيت في الفاتيكان في آذار 1987 للآب بيتر هانس كولفنباغ (8)

Share this Entry

تتوجّه إلينا كلمة لها الوقعُ المدهش والمؤثر على حياتنا  :” كونوا قدّيسين ، لأني أنا الربّ الهكم قدّوس ” (أح 19 : 2) . الواقع ، أنّ هذه الدعوة نفسها تتكرّر في أسفار الكتاب المقدّس كلّها ، فيكتب القدّيس بطرس في رسالته الآولى : ” كما أنّ الذي دعاكم هو قدّوس كذلك كونوا أنتم قدّيسين في سيرتكم كلها ” (1 بط 1 : 15 ) . ويتضمّن الخطاب على الجبل الدعوة نفسها  : ” كونوا أنتم كاملين ، كما أنّ أباكم السماويّ كاملٌ ” ( متى 5 : 48) ، في حين أنّ القديس لوقا ينقلُ إلينا كلمة مماثلة قالها الربّ : ” كونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم ” ( 6 : 36) .

العبارات تتعدّد ، والصيغ تتبدّل ، إلاّ أنّ المفارقة ، التي تفرض نفسها على الإنسان ، لا تتبدّل : فالذي هو  ” مثلّث التقديس ” يريد أن تكون قداسته قداستنا ، ويريد أن نقاسمه هذه القداسة . والله القدّوس أراد أن يبدأ قصّة حبّه لنا بهذه المقاسمة .  فكتابُ سفر الأحبار لا يتردّد في أن يحثّنا على أن نكون قدّيسين ، وهو يحدّد المبدأ الأساسيّ لذلك : ” لأني أنا الربّ إلهكم قدّوس ” ( 19 : 2 ) . وإثرَ هذه الكلمات ، يحثّنا الكتاب نفسه بكلمات أخرى تفوقُ الآولى وضوحـــًا : ” تقدّسوا وكونوا قدّيسين ، لأني أنا الربّ إلهكم . واحفظوا فرائضي واعملوا بها :  ” أنا الربّ إلهكم مقدّسُكم ” (أح 20 : 7 – 8 ) .

عبارة ” أنا قدّوس ” هي بداية ونهاية كلّ صلاة وكلّ سعي إلى الله . فعندما نودّ أن نقول إنّ الله هو حقٌّ وعادل وصالح ، نستطيع الإستناد ، بفضل القياس ، إلى آثار الحقيقة والعدل والصلاح كما هي ظاهرة بين البشر . أمّا القداسة ، فهي ليست فكرة لها اصلها في الإنسان ، بل إنها تتحدّد بالعودة إلى مَن هو اللامُدرك القدّوس ، إذ إنّ قداسة الله لا تُماثل أيّ تصوّر مسبق للقداسة : إنها ذاتيّة الله ، ولا مجال أمامنا لمعرفتها إلاّ بإنفتاحنا على ما كشفه الله لنا ، هو المثلّث التقديس . ولأن ” قداسة الله ” هي جوهر ألوهيّته الخاص ، فإنها تشير إلى ” صميم كيانه ” . فالقداسة هي الله حقّا لأن الله هو الله .

سفرُ الأحبار لم يخطئ السبيل ، إذ إنّ الكناية ” أنا هو القدّوس ” ، ليست في الواقع تحديدًا . فالقول إنّ الله هو قدّوس لا يعني أنه يحدّ نفسه في تصوّر معيّن ، كما هو الحال بالنسبة إلى تعريفات الكمال الخُلقيّ . فقداسة الله ، في نظر البشر ، كانت وستكون دومــًا أمرا مفاجئا ، خَبِره القدّيس بولس والقدّيس بطرس ، وكذلك الشابّ الغنيّ في الإنجيل ( مر 10 : 17 و 22 ) . فهؤلاء كانت لديهم المعرفة الكاملة للكمال الخلقيّ بحسب العهد القديم ، في حين أنّ الشاب الغنيّ ، الذي كان يعدّ الخيرات الماديّة ثوابــــًا لكماله الخلقيّ ، تبلّغ الدعوة  المفاجئة ، لبيع ممتلكاته والسير وراء يسوع الناصريّ . وهناك أيضا أشعياء النبيّ ، هو أيضا اختبرَ تلك ” الدعوة المفاجئة ” : فالله المثلّث التقديس يدخل بشكل مفاجئ في حياة النبيّ . إنه يدخل بلا أيّ مقابل ، بصورة جديدة تمامــا ، ومن دون أن يكون منتظرا على الإطلاق . وردّة فعل اشعياء : ” ويلٌ لي ، لقد هلكتُ ” (اش 6 : 5 ) . إنها كنايةٌ عن صرخة حادّة حاولت أن تعبّر عن الهاوية التي لا تُردَم بين الملء والعدم ، بين القدّوس والخاطئ . فالربّ الإله هو الذي لا مثيل له في قداسته ، والإنسان الذي يعتقد بأنه مساو ٍ ، في أمر ما من الأمور ، لذلك الذي اسمه قدّوس ، لم يُدرك بعد أنّ واقعه الصميم هو عدم ، وهذا الإنسان لم يُدرك أنه العاجز أمام الكليّ القداسة . ليس أمام الإنسان إلاّ أن يترك الله يحرقه بقداسته كما حرقت اشعياء .

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير