وهذه السنة يكون قد مر ألفا سنة على مولد القديس بولس، والكنيسة الكاثوليكية كرست هذه السنة ابتداء من اليوم حتى تاريخ مثل هذا اليوم من السنة المقبلة لهذا القديس الذي لُقب بذي الطبع الناري
فلنسأل الله، بشفاعة هذين القديسين أن يوطد فينا ايماننا به تعالى، لنذلل ما يحيط بنا من مصاعب.ونواصل الحديث عن يسوع المسيح كما ورد في كتاب البابا بنديكتوس السادس عشر: يسوع الناصرة: ونرى اليوم كيف شرح الطوبى الأولى والثاني من انجيل القديس متى.
في هذه الحالة، ما من تضاد بين متى الذي يتحدث عن فقراء القلب، ولوقا الذي يتوجه الرب عنده الى “الفقراء”. قيل أن لوقا في الأصل كان يعني الفقر المادي والحسي، فيما كان متى قد روحن هذا المفهوم فنزع عنه ميزته الأصلية.من قرأ انجيل لوقا عرف تمام المعرفة أنه يقدم لنا “فقراء القلب” أي نوعا ما المجموعة الاجتماعية التي شكلت نقطة الانطلاق في مسيرة يسوع الأرضية ورسالته.وجلي أن متى عكس ذلك يضع نفسه في تقليد تقوى المزامير، وبالتالي في رؤية اسرائيل الحقيقية التي تعرب عنها المزامير.
الفقر المقصود هنا ليس بالفقر المادي.ان الفقر المادي لا يخلص، ولو بات أكيدا أن المحرومين في هذا العالم بأمكانهم أن يعتمدوا على العناية الالهية.ولكن قلب الذين لا يملكون شيئا بامكانه أن يتحجر، وينحرف، ويسؤ، وأن تتملكه باطنيا شهوة الامتلاك ، فينسى الله، ويشتهي أن يمتلك خير الآخرين.
ومن جهة أخرى، ان الفقر المعني هنا ليس موقفا روحيا محضا. ما من شك، في أن الموقف الحاسم الذي أعطيناه، ولا نزال نعطاه هنا كمثل في حياة الكثيرين من المسيحيين الحقيقيين بدءا بانطونيوس، أبي الرهبان، انتهاء بفرنسيس الأسيزي والفقراء، الذي هم مثل أعلى في عصرنا، ان هذا الموقف ليس رسالة يلتزم بها جميع الناس. ولكن الكنيسة، لتكون جماعة فقراء يسوع، تحتاج دائما الى وجوه كبيرة تمارس التقشف. وهي في حاجة الى جماعة تتبعهم، وتعيش الفقر والبساطة، وتظهر لنا بذلك حقيقة التطويبات، لكي تهزنا وتوقظنا لنفهم ان امتلاك الخيور، انما هو خدمة لمقاومة ثقافة التملك بثقافة الحرية الداخلية، ولخلق شروط العدالة الاجتماعية بهذه الطريقة.
ان العظة على الجبل بحد ذاتها ليست، كما هي، برنامجا اجتماعيا. ولكن العدالة الاجتماعية لا يمكنها أن تنمو الا حيثما يبقى التوجيه الكبير الذي تعطيناه حيا في اعتقادنا، وطريقة تصرفنا، حيثما يولي الايمان القوة على التخلي عما لنا لنشعر بأننا مسؤولون عن قريبنا وعن المجتمع. وعلى الكنيسة أن تبقى دائما واعية أنه عليها أن تعرف في عين الجميع بأنها جماعة فقراء الله.وكما أن العهد القديم قد انفتح على ما أتى به العهد الجديد انطلاقا من فقراء الله، ان كل تجدد في الكنيسة لا يمكنه أن يأتي الا من الذين يبقى لديهم تواضع حق حيا، وجودة دائمة الاستعداد لخدمة الغير.
ولكننا لم نعتبر هنا الا القسم الأول من اولى التطويبات ” طوبى لفقراء القلب”. ان الوعد المعد لهم هو عينه لدى متى ولوقا:” ان ملكوت السماء هو لكم” . و”ان ملكوت السماء هو لهم”. ان ملكوت السماء، وهو موضوع أساسي في رسالة المسيح، يدخل في الطوباويات، وهذا الاطار هو مهم لفهم هذه الفكرة التي قام حولها جدل كبير. وقد رأينا ذلك عندما بحثنا عن كثب في معنى عبارة “ملكوت الله”، وعلينا أن نذكر ذلك في ما نقدمه لاحقا من خواطر.
ولكن ربما كان من المستحسن، قبل أن نتابع تأملنا في النص، أن نعود الى وجه تاريخ الايمان الذي يظهر وجوده البشري بقوة بالغة معنى هذه الطوبى، وهو فرنسي الأسيزي. ان القديسين هم شراح الكتاب المقدس الحقيقيون. وان معنى أية عبارة ينكشف، قبل كل، بفضل الناس الذين أثرت فيهم بكاملهم، والذين عاشوها بكليتهم. وان ترجمة الكتاب لا يمكنها أن تكون مسألة أكاديمية، ولا أن تلقى في المجال التاريخي فقط. ان الكتاب يخفي دائما بالقوة مستقبلا لا يكشف عن نفسه الا عندما يحيا الانسان كلمته حتى النهاية، ويتألم من أجلها.ان الوعد المكتوب في الطوبى الأولى، تملك فرنسيس الأسيزي تملكا عميقا، حتى تخلى عن ثيابه قبل أن يتقبل سواها من يد الأسقف، ممثل جودة الله الأبوية الذي يلبس زنابق الحقل خيرا من لباس الملك سليمان . هذا التواضع العميق كان في نظره ، قبل كل، حرية خدمة، وحرية اتباع الانسان رسالته، وثقة تامة بالله الذي يهتم بزنابق الحقل، وايضا بأبنائه على الأرض. وكان ذلك أيضا تصحيح مسار بالنسبة الى كنيسة ذلك الزمن، تلك الكنيسة التي فقدت ما لها من حرية، ونشاط رسولي تحت وطأة نظام اقطاعي. وهذا يعني انفتاح ذاتها العميقة على المسيح الذي جعلتها جراحه أشبه به كل الشبه، بحيث انها لم تعد هي من تحيا، بل وقد ولدت مجددا، فهي تحيا بالمسيح وفي المسيح. ولم يشأ أن يؤسس رهبانية، بل ان يجمع مجددا شعب الله ليسمع الكلمة، بدلا من أن يختفي وراء شروح علمية ليتملص من دعوة الله الجادة. ولكنه وقد أوجد الرهبنة الثالوثية، فقد قبل أن يميز بين الالتزام الصارم وضرورة العيش في العالم. الرهبنة الثالوثية تعني قبول رسالة الدعوة العلمانية ومتطلباتها حيثما يدعى كل الى القيام بذلك، وهو ينقاد بطيبة خاطر بالشراكة الحميمة والعميقة مع المسيح مثلما عاشها قبلنا فرنسيس الأسيزي. “الذين يشترون كأنهم لا يملكون” أن تعرف أن تحيا هذا الزخم الداخلي، كما لو انه ربما واجب أصعب، أن تتمكن من أن تعيشه في الواقع، بطريقة دائما متجددة بالاعتماد على الذين اختاروا اتباع المسيح اتباعا صارما، هذا هو معنى الرهبان
ية الثالوثية التي تكشف لنا ما تعنيه هذه الطوبى بالنسبة الينا جميعا. وخاصة ان مثل فرنسيس الأسيزي يظهر لنا بوضوح ما معنى” ملكوت الله”. كان فرنسيس مرتبطا كل الارتباط بالكنيسة، وفي الوقت عينه، ان أشخاصا مثله، يقربون الكنيسة من هدفها المستقبلي الذي هو حاضر: ملكوت الله قريب كل القرب. ان طوبى أنجيل متى الثانية هي مرتبطة كل الارتباط بالأولى:” طوبى للودعاء، فانهم يرثون الأرض” هذه الطوبى هي تقريبا ايراد نص أحد المزامير:” الودعاء يرثون الأرض” .في التوراة باليونانية،ان لفظة الطيبين، الودعاء، التي تحمل تقليدا غنيا، طويلا تترجم اللفظة العبرية التي تعني فقراء الله الذين ألمحنا اليهم سابقا لدى كلامنا عن الطوبى الأولى.ان الطوبى الأولى والثانية تتقاطعان اذن تقاطعا رحبا، فالثانية تحدد مرة ثانية وجها جوهريا عما يعني الفقر المعاش انطلاقا من الله، وفي منظور الله.
ولكن المروحة تتسع أيضا اذا اعتبرنا نصوصا أخرى تظهر فيها اللفظة عينها. لقد جاء في سفر العدد :” ان موسى كان وضيعا جدا، اكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض” .وكيف لا نفكر في هذا الأطار بعبارة يسوع :” احملوا نيري عليكم ، وكونوا لي تلاميذ، لأني وديع ومتواضع القلب، تجدوا الراحة” .المسيح هو موسى الجديد، موسى الحقيقي (هذه هي الفكرة الأساسية التي تمر في عظة الجبل)، فيه يتوطد حضور الجودة الصافية التي هي خاصة العلي الذي يملك.
وانا نذهب بعيدا أيضا اذا اعتبرنا ترادفا آخر بين العهد القديم والعهد الجديد، نصادف في وسطه مجددا لفظة وديع، متواضع. ونجد في سفر زكريا هذا الوعد بالخلاص: تهللي بكل قواك، يا ابنة صهيون.واهتفي يا ابنة أورشليم هوذا ملكك يأتيك صديقا مخلصا ، وديعا، راكبا على أتان وجحش ابن أتان. هذا الملك سيستأصل… عجلات الحرب…وسيكسر قوس القتال وسيعلن السلام للأمم . ويكون سلطانه من البحر الى البحر . ان النبي يعلن هنا مجيء ملك فقير ، ملك لا يتوطد ملكه على سلطة سياسية وعسكرية. وطبعه التواضع، والعذوبة تجاه الله والناس. وهذا الطبع الذي يضعه في مواجهة مع كبار ملوك الأرض، يظهر بمجرد انه يدخل راكبا دابة، وهي مركوب الفقراء، خلافا لعربات الحرب التي يقضي عليها. فهو ملك السلام، وهو ذلك بقوة الله، وليس بقوة سلطانه الخاص.
الى هذا تجب اضافة شمولية ملكه التي تنبسط على كل الأرض ” من بحر الى بحر”. وهذه العبارة توحي بالكرة الأرضية المحاطة بالماء من كل جهة، وهي تشعرنا بامتداد ملكه الذي يلف الكون بأجمعه. كارل أليغر كان على حق عندما قال: “ظهر من الضباب بوضوح عجيب وجه ذاك الذي حمل في الواقع السلام الى العالم كله، والذي هو يجعل مكانه فوق كل حجة، لأنه بصفته ابنا مطيعا، رفض اللجؤ الى العنف، وتألم حتى أنقذه أبوه من الألم، وهو الآن يبني دونما تلكؤ ملكوته عبر هذه الكلمة البسيطة، كلمة السلام. والآن فقط أدركنا مدى رواية أحد الشعانين وفهمنا معنى ما قاله لوقا:” (وأيضا يوحنا) وهو أن يسوع أرسل تلاميذه ليأتوه بأتان مع جحشها: “وهذا حدث ليتم الكلام الذي نقله النبي: قولوا لابنة صهيون: هوذا ملكك يأتيك وديعا، راكبا أتانا وحجشا ابن اتان” .
يجب أن نسأل الله أن يقوي منا الايمان به تعالى لنجتاز هذه المرحلة الصعبة من تاريخ وطننا لبنان. والمسؤولون عنه وعن مقدراته يتزاحمون على الحقائب والكراسي، فيما الشعب يئن من بطالة، وفقر، وركود حال. الهمنا الله جميعا ما فيه خيرنا وخير بلدنا”.