بقلم روبير شعيب
روما، الخميس 22 يوليو 2010 (Zenit.org). – الظلمة النيرة التي تحدثنا عنها في الجزء السابق تنتج عن كون الله الكائن الشخصاني. فالله هو الكائن الخفي بامتياز، لأنه بامتياز الكائن الشخصاني، ذاك الذي يأخذ منه كل الأشخاص اسمهم” (H. De Lubac, Sur les Chemins de Dieu, 168). ومعرفة الله الحقة، هي رؤية في عدم الرؤية، لأنه، في حضرة كيان الله الشخصاني، “الجهل أكثر تقوى من المعرفة المتعجرفة”، كما يقول القديس أغسطينوس (magis pia est ignorantia, quam praesumpta scientia). فأب الكنيسة العظيم هذا، الذي طبع تفكيره اللاهوتي بخبرته الصوفية كان يقول: “إنما نحن نتحدث عن الله، فما العجب إذا لم تفهم؟ بل إذا فهمت، فما فهمته ليس الله” (Si enim comprehendis, non est Deus) (Agostino, Sermo 117, 3. 5). يقصد القديس بقوله أن الله يسمو دومًا على قدرة معرفتنا، وإذا ما ظننا أن إحدى أفكارنا هي الله، فنحن في ضلال، لأننا إنما جعلنا من فكرة بشرية فقيرة إلهًا ممجدًا.
نفهم في هذا الإطار لم كان ديونيسيوس الأريوباجي المنحول يتحدث عن الله كـ “هوية خفية” وكـ مجهول” (باليونانية: anonymia)، وحرفيًا دون اسم أو كلا شيء. الله ليس كائنًا لأنه يتسامى كل الكائنات. مايستر إيكارت (Meister Eckhart) يصف خبرة الله في الألمانية القديمة بـ “ nihtes Niht ” أي بـ “فراغ العدم”، والقديس يوحنا الصليب يستعمل تعبيرًا ممائلاً فيتحدث عن “الليل المظلم” (noche oscura).
جميع هذه المحاولات هدفها واحد، وهو تبيان طبيعة الإيمان في حضرة الإله المتسامي: المؤمن يعيش في الإيمان ما وراء المعرفة واللامعرفة، في إطار اتحاد الحب. وقد حدست الطوباوية أليصابات الثالوث الكرملية طابع الإيمان الخاص هذا بصورة جميلة، إذ كتبت يومًا: “الإيمان هو لقاء وجهًا لوجه في الظلمة” (La foi c’est la face à face dans les ténèbres).
هذا ونجد في أحد كبار فلاسفة القرن العشرين نوعًا من تردد فلسفي يقارب شعور الصوفيين؛ ففيتغينشتاين (Wittgenstien) يعبر عن تقديره للرمزية المسيحية، ويثور ضد محاولات حصرها وتحجيمها قائلاً: “في رمزية المسيحية روعة تفوق الوصف، وأشعر بالتقزز نحو من يسعة إلى تحويلها إلى بنية” (M. O’C. Drury, “Some notes on conversations with Wittgenstein”, in R. Rhees (ed.), Ludwig Wittgenstein. Personal recollections, Totowa – N.J. 1981, 101) وذلك لأن هناك أمور “لا يمكن تحديدها في كلمات. هذه الأمور تتجلى. إنها الوقائع الصوفية” (L. Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, 6. 522).
بالعودة إذًا إلى المعرفة الصوفية، يمكننا أن نقول أنها معرفة حدسية لله، ولكن دومًا في نوع من الظلمة (in umbris). لأن الله هو ذاك الذي نجده في بحثنا عنه دومًا وفي متابعتنا دومًا لهذا البحث، وهو يبقى دومًا بطبيعته “المطلوب” ho Zetoumenos كما يصفه القديس غريغوريوس النيصصي في عظاته في نشيد الأناشيد، أي ذاك الذي لا يمكننا أبدًا أن نتملكه، بل ذال الذي يتملك دومًا قلبنا من خلال جذبنا إليه في التوق.
مع إله يتجاوز قدرة الإنسان على الإدراك تتحول المفاهيم إلى فرص لحمل الله في كيان الإنسان، فيتم تجاوز المفهوم في حضور الله في المؤمن واتحاده بكيانه بطريقة تفوق الكلمة.
المعرفة الحقة هي أن يخلع المرء نعليه من قدميه وأن يسير بدهشة وانذهال نحو العليقة المشتعلة، لأن مصير كل كائن بشري هو أن يكون عليقة تقيم فيها نار الله (راجع خر 3، 1 – 6).
يقول النيصصي واصفًا خبرة اللاهوت الصوفي: “تتحول المعرفة إلى محبة واتحاد”. معرفة الله الحقة هي اتحاد الحب معه لأن الله هو كائن شخصاني، ولذا معرفته تتم بالمعنى البيبلي، في تسامٍ يمر من خلال العقل ويسمو به. يجب على اللاهوت أن يتبنى دينامية الخروج إذا أراد أن يلتقي بالله الحي. فغاية الحياة المسيحية ما هي إلا الولوج في عناق الآب والابن الأبدي في الروح القدس.