للأب هاني باخوم
روما، الاثنين 26 يوليو 2010 (Zenit.org). – رأينا في المرة السابقة ان الأرملة التي قابلت ايليا لا تملك شيئا كي تطعمه. فلديها ما يكفي فقط لوجبة واحدة لها ولابنها وبعدها يموتان. وامام هذا الواقع لا يتردد ايليا، فجوابها اكد له انها الأرملة المقصودة. هذا يبدو غريباً، لكنه الواقع. نعم ايليا نبي نشأ على منطق الله. فالله لا يدبر له ارملة غنية لكي تعيله، بل ارملة فقيرة، لا تملك إلا القليل من الخيرات، لكي تَظهرَ قدرة الله ليس فقط في تدبير الطعام، بل في تدبير انسان مُستَعد ان يُعطي ما له، حتى القليل، لأنه يثق بالإله الحي. هذا هو الحدث الأكبر. الله يجعل الإنسان شريكاً له في إطعام الآخرين من القليل الذي لديه. بل بالأحرى الله يريد ان يُطعم هذه الأرملة. القليل سيكون على الدوام كافياً لها ولإبنها وللنبي. نعم، لذلك تأكد ايليا انها الأرملة المقصودة. فهو لا يتعثر من حالة الأرملة الفقيرة، ولا يشك في حب الله لها. ايليا نبي الله، ويعلم ان الله يريد الحياة لها، فقد ارسله اليها لكي تعيله فتتلقى الحياة. ايليا صورة للمسيح الذي سيطلب الماء من السامرية، لكي يعطيها هو ماءً، من يشرب منه لا يعطش ابداً. لذا يقول لها ايليا: “لا تخافي! أُدخلي فأعدّي كما قلتِ، ولكن اعدّي لي من ذلك أولاً قرصاً صغيراً واتِني به، ثم أعدي لكِ ولابنكِ بعدئذ. فإنه هكذا قال الرب اله اسرائيل: إن جرة الدقيق لا تفرغ وقارورة الزيت لا تنقص، إلى يوم يرسل الرب مطراً على وجه الأرض” (امل 17: 13ـ14).
لكن، كم هو قاسٍ طلبك يا ايليا! تطلب من الأرملة ان تخاطر بما لديها لتطعمك انت اولاً، ثم تأكل هي وابنها، وتَعدها بعد ذلك ان لا شيء سينقص!! لماذا لا تكثّر ما لديها من دقيق وزيت اولاً فترى المعجزة وتؤمن بك وبإله اسرائيل؟ لماذا يجب ان تخاطر اولاً؟ هل هذا تطرف في امتحانها ام انك تجبرها على صنع ما تريده انت؟ ام هذه هي قمة الاحترام لها؟ نعم قمة الاحترام لحرية هذه الأرملة. فالله لا يفرض عليها معجزة كي تثق به، بل يجعلها حرة. يدعوها بكلمة ان تثق به، بدون ان يقوم بما هو فائق للطبيعة لإخضاع حريتها. فقط يدعوها لتثق بكلام النبي لأنه مرسل من قبله تاركاً لها القرار. الأرملة حرة في ان تقرر: تأكل ما لديها مع ابنها وتموت، ام تخاطر بما تبقى لديها من حياة من اجل حياة اكبر موعودة بها. الأرملة تُحب الحياة وتحياها حتى آخر لحظة كحياة، تقرر وبدون كلمة ان تمضي وتعد كما قال لها النبي. وبالفعل جرة الدقيق لم تفرغ وقارورة الزيت لم تنقص (امل 17: 15ـ 16).
“جرة الدقيق لم تفرغ وقارورة الزيت لم تنقص” لا يقول الكتاب ان جرة الدقيق “امتلأت” بل “لم تفرغ”، او ان قارورة الزيت “ازدادت” لكن يقول لم “تنقص”. اي ان القليل بقي قليلاً. الأرملة في كل مرة تذهب لتحضِّر الخبز،عليها ان ترى ان ما لديها يكفي فقط لها ولابنها كي يأكلا وبعدها يموتان. اي كل مرة يجب ان ترجع وتثق من جديد بإله اسرائيل وبكلام النبي. قرار ثقتها يجب ان يؤكَد كل مرة، بل بالأحرى عليها كل يوم ان تقرر من جديد وكأنها المرة الاولى. كالشعب في الصحراء، عليه ان يجمع المن يوماً بيوم، وان جمع ليومين يفسد الطعام. دائماً لديه ما يكفي يومه. وفي اليوم التالي سيجد ما يكفيه ايضاً. اي ان الأرملة كشعب اسرائيل مدعوة ان تحيا اليوم دون ان تحمل همّ الغد، ان تحيا اليوم من اجل اليوم، وهكذا تحياه بالملء، لان ما لديها يكفيها اليوم. الله يعتني بالأرملة الفقيرة تاركاً اياها فقيرة لا يغير حالتها وفي نفس الوقت لا يَنقصها شيء ولا ينقص مما لديها شيء.
بهذا التمرين القاسي على الثقة التي يجب ان تتجدد يومياً بالله، تتعلم ان حياتها لا تأتي من الجرة او القارورة، بل من كلمة النبي ووعده باسم اله اسرائيل. هكذا لا يتعلق قلبها الا بتلك الكلمة ولا تثبت عيناها الا على ذلك الوعد. وهكذا تحيا هي وابنها. اي انها تختبر ان مصدر حياتها هي كلمة الله ووعده. فتختبر كشعب اسرائيل في الصحراء “انه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (تث 8: 3).
نعم تختبر الأرملة الحياة الحقيقية من خلال ثقتها باله اسرائيل ويختبر النبي ايليا كذلك تحقيق وعد الله. فالله صادق وقد تمم وعده له ولها، فحضَّرها كي تعيله وارسله اليها كي يمنحها وابنها الحياة. لكن يا ليت الأحداث تمر هكذا بسلام!! يحدث شيء غريب، بل شيء يناقض كل ما قيل حتى الآن. حدث يجعل الأرملة تشك في سبب مجيء ايليا اليها. فماذا حدث؟
الى المرة القادمة….
ايام مباركة.