سيدني، الجمعة 17 ديسمبر 2010 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي القسم الثاني من مقالة سيادة المطران عصام يوحنا درويش التي يشرح فيها القداس الإلهي في القسم الثاني المعروف بليترجية الكلمة والذي يمتد من بداية القداس وحتى العظة.
* * *
1– ملكوت الله
بعد صلاة استدعاء الروح القدس “أيها الملك السماوي.” يعلن الكاهن “مباركة مملكة الآب والابن والروح القدس..” جاء يسوع ليبشر بملكوته “حانَ الوقتُ واقتربَ مَلكوتُ الله فتوبوا وآمنوا بالبشارة” (مر1/15). يؤمن كل مسيحي بأن هدف حياته وجوهر إيمانه هو السعي إلى ملكوت الله، أي التعرف إلى الله وحبّه وعبادته والشركة معه والحياة فيه “الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإلهَ الحَقَّ وحدَك” (يو17/3). بشّرَ أنبياء العهد القديم بالملكوت وانتظروه طويلا والله مهّدَ بواسطتهم لكشفه، وعندما وطأت قدما يسوع أرضنا صار الملكوت بيننا ومعنا “إن ملكوت الله هو فيكم” (لو17/21) وبعد قيامة يسوع وصعوده إلى السموات صارت الكنيسة هي ملكوت الله على الأرض وسيكتمل في السماء.
عند إعلان الكاهن في بداية القداس الإلهي أن ملكوت الله مبارك، يعني أننا نحن البشر القادمين إلى الكنيسة للعبادة، ننتمي إلى فوق، إلى عالم القيامة. فنبقى منذ بداية القداس الإلهي حتى نهايته في هذا العالم، لا بل نَحمِلهُ إلى عالمنا الأرضي فالافخارستيا هي بالأصل سماوية لكنها بالكنيسة تصير فينا كنزا فنحسب أننا “إذا وقفنا في هيكل قدسك أننا في السماء واقفون” (من صلاة سحر الصوم).
2– الطلبات السلامية والأنديفونا
يبدأ الشماس بتلاوة الطلبات السلامية، نصلّي فيها للبشرية كلّها: للحكام والمسؤولين، روحيين ومدنيين، للمدن والقرى والساكنين فيها والمسافرين بحرًا وجوًا وبرًّا والمرضى والمتألمين والمسجونين. فالمسيحي يشعر بعمق ويتأثر بما يحصل في الكون فيحمل إلى الله صلاته ليشفق على جميع البشر. أجمل ما في هذه الطلبات هو أن يطلب المسيحي السلام العلوي أي سلام المسيح وهو أفضل عطية يتمناها المسيحي لأنه المدخل إلى ملكوت الله. بدون شك كل مسيحي يصلي من أجل الكل لأنه في شركة مع المؤمنين في الكون كلّه “فأسألُ قَبلَ كُلِّ شَيء أن يُقامَ الُّدعاءُ والصَّلاةُ والابتِهالُ والَمدُ من أجلِ جميعِ النّاس.. لِنحيا حَياةً سالِمةًّ مُطمَئنة بكلِّ تقوى ووقار” (1تيم2/1-2).
تلي الطلبات أنديفونات وهي أبيات من المزامير وترانيم تطلب شفاعة الأم العذراء ليخلصنا الله ثم تنشد الجوقة نشيد “تجسد كلمة الله من العذراء وصلبه وموته وقيامته وتمجيده”. بهذا يتهيأ المصلّون للدخول الصغير أو التطواف بالإنجيل المقدس.
3– التطواف بالإنجيل المقدس
يُنقل الإنجيل بخشوع من داخل الهيكل عبر الباب الشمالي إلى خارج الهيكل ليطوف بين الشعب ثم يُعاد إلى الهيكل من الباب الملوكي. يسير أمام حامل الإنجيل حملة الشموع يمثلون يوحنا المعمدان الذي قال: “أَعِدّوا طَريقَ الّرَب واجعَلوا سُبُلَه قَويمَة” (لو3/4)، كما أنهم يمثلون أيضا أنبياء آخرين بشروا بقدوم المخلص. كذلك ليتذكر المؤمنون ما قاله صاحب المزامير: “كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبلي” (مز118/105) وأيضا “آمنوا بالنُّور، ما دامّ لكُمُ النُّور فَتَكونوا أبناءَ النور” (يو12/36).
يرمز هذا الطقس إلى خروج المسيح ليبشر بالملكوت. إن كل حركة من الجهة المخصصة للمؤمنين إلى الهيكل تُمثل صعودا نحو الملكوت ومسيرة حج إلى الهيكل السماوي حيث نشهد “ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خطَرَ على قَلبِ بَشَر” (1كور2/9). وبينما يمر الإنجيل بين المؤمنين يرافقه الجميع بنظراتهم وعندما يصل قربهم ينحنون وهم يرسمون إشارة الصليب يشكرون الله على محبته ولأنه منحهم البشرى السعيدة.
4– الأناشيد وكلام الله
بعد زياح الإنجيل ترنم الجوقة بأناشيد العيد وشفيع الكنيسة وآخر لوالدة الإله (يُضاف إليها نشيد القيامة يوم الأحد) ثم يأتي التسبيح المثلث التقديس فيمتزج صوت البشر مع صوت الملائكة (هذا النشيد يتغير في الأعياد الكبرى)، إنه نشيد الفرح والابتهاج لأن الإنسان أُعطي نعمة فائقة ليشترك “في قداسته” (عبر12/10). ثم تأتي القراءات وعظة الكاهن.
الكلمة الإلهية مأخوذة من الكتاب المقدس ولها مكانة مهمة في حياة الكنيسة وحياة المؤمنين، فالكتاب المقدس هو السلطة العليا في تحديد الإيمان وتقديس المؤمنين، والكلمة عطية من الله يَحلُّ باستمرار فينا: “الكلمةُ صارَ بَشَرًا فَسَكنَ بينَنا” (يو1/14)، لذلك يمكننا القول بأن قراءة الكتاب المقدس لا يقل أهمية عن تقديس القرابين، إنه جزء من الليتورجيا ولقاءٌ طيّبٌ مع المسيح يزيدنا قدرةً وإيمانًا وتحريرًا وتقديسا.
تبدأ قراءة الكتاب المقدس بتلاوة البروكيمنون وهي عبارة عن آيتين أو ثلاثة من المزامير يرددها الشعب بعد قراءتها أو ترتيلها. هذه الآيات هي مدخل إلى سر الكلمة الإلهية وهي تخاطب الإنسان ليفتح قلبه وعقله ليصغي إلى كلمة الله ويفهمهما: “حينئذٍ فتحَ أذهانَهُم لِيَفهموا الكُتب” (لو24/45).
5– القراءات
بدون شك وضعت الكنيسة قراءات من العهد الجديد قبل ليترجية التقديس لتعليم المؤمنين فيسمعوا كلمة الله ويتأملوا بها، لكن أيضا لتبيان الارتباط بين الكلمة وتقدمة القرابين فهما لا ينفصلان كما جاء في إنجيل يوحنا: “أنتُم الآنَ
أطهار والفَضلُ في ذلكَ للكلامِ الذي خاطبتُكُم به” (يو15/3). فكلام الله الذي يُنقي سامعيه يؤهلهم لتناول جسده ودمه، بالإضافة إلى ذلك يجعلهم يعودون باستمرار إلى الله فيفتح قلوبهم ويجعلهم يستمتعون بهبات الروح القدس.
قبل القرن السابع كانت تقرأ في القداس الإلهي ثلاث قراءات، واحدة من العهد القديم واثنتان من العهد الجديد، ثم حذفت قراءة العهد القديم ونقلت إلى صلاة الغروب واكتفي بقراءة فصل من الرسائل أو من أعمال الرسل وأخرى من الإنجيل المقدس.
بعد الرسالة يرتل الجميع “هللويا” وتعني حرفيا “رتلوا لله” وهي تحمل إلى المؤمنين نوعا من الفرح والنشوة والتسبيح وهي صرخة يطلقها الإنسان من أعماق قلبه مرحبا وشاكرا لأنه صار في حضرته، فالرب آت هللويا.
6– الإنجيل المقدس
قبل تلاوة الإنجيل يُبخِّر الكاهن الإنجيل والشعب ويتلو صلاة جميلة “أيها السيد المحب البشر أضئ قلوبنا..” يسأل الله فيها بالنيابة عنه وعن الشعب أن يمنحنا ثمار الإنجيل الصالحة وأن يعطينا عيشًا كريمًا يتوافق مع عطايا الروح القدس وأن يفتح عيون أذهاننا لنفهم تعليم الله لأن فهم الإنجيل لا يخضع لإرادتنا فقط بل عندما يفتح الرب عيوننا الروحانية وعندما يحلّ الروح القدس علينا.
بعد الإنجيل تأتي العظة لشرح ما جاء في الكتاب المقدس أو في بعض المناسبات شرح بعض الأعياد والتذكارات. من المهم جدا أن تأتي العظة بعيدة عن فنّ الخطابة أو أن ينقل الواعظ للمصلين أفكارا لاهوتية أو فلسفية أو آراء شخصية كما يقول بولس الرسول: “لَم آتِكُم لأبَلِّغَكُم شَهادةَ الله بِسحرِ البيانِ أو الحكمة.. ولم يعتمِد كلامي وبشارتي على أسلوبِ الإقناعِ بالحكمة، بل على ظُهورِ الرُّوحِ والقوَّة، كي لا يستندّ إيمانُكم إلى حكمة الناسِ، بل إلى قُدرةِ الله” (1كور2/1-5)؛ فالعظة يجب أن تكون إذن شرحا للإنجيل وعلى الشعب أن يتقبل هذا التعليم ويثبت فيه لأن كلمة الله روح وحياة.