* * *
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
أود أن أتطرق في تعليم اليوم إلى مزمور له أبعاد كريستولوجية (ميسحانية) قوية، وهو يظهر باستمرار في أناجيل آلام يسوع، في طابعه المزدوج الذي يجمع بين الاتضاع والمجد، بين الموت والحياة. إنه المزمور 22، بحسب التقليد العبراني، و 21 بحسب التقليد اليوناني-اللاتيني: صلاة نابعة من القلب ومؤثرة، ذات كثافة إنسانية وغنى لاهوتي يجعل من المزمور أحد أكثر المزامير تلاوة ودراسة. إننا بصدد نظم شعري طويل، وسنتوقف نحن بشكل خاص على القسم الأول، الذي يركز على الحزن والرثاء، لكي نتعمق ببعض الأبعاد العامة في صلاة التضرع إلى الله.
يقدم هذا المزمور صورة البار المُضطهد والمُحاط بأعداء يبغون موته؛ ويلتجئ إلى الله برثاء متألم سينفتح تدريجيًا، بالإيمان، وبشكل سري على التسبيح. يتعاقب في صلاته واقع الحاضر الكئيب وذكرى الماضي المعزية، في وعي موجع لحالته البائسة التي لا تريد أن تتخلى عن الرجاء. صراخه الافتتاحي هو دعوة موجه إلى إله يظهر وكأنه بعيد، لا يجيب ويبدو وكأنه قد تخلى عنه:
إلهي إلهي، لماذا تركتني؟
بعدت عن خلاصي كلمات صراخي!
إلهي، في النهار أدعو فلا تجيب
وفي الليل لا سكينة لي. (الآيات 2 – 3).
الله يصمت، وهذا الصمت يمزق نفس المصلي، التي تدعو باستمرار، ولكنها لا تجد جوابًا. تتوالى الأيام والليالي في بحث لا يضنى عن كلمة، عن عون لا يحضر؛ يبدو الله بعيدًا، متناسيًا، غائبًا. تطلب الصلاة إصغاءً وجوابا، تتمنى التواصل، تبحث عن علاقة تستطيع أن تعطي تعزية وخلاصا. ولكن الله لا يجيب، صراخ المساعدة يتبدد في الخواء وتضحي الوحشة واقعًا لا يطاق. ومع ذلك، يدعو المصلي في مزمورنا الرب “إلهي” ثلاث مرات في المزمور، في فعل إيمان وثقة فائق الوصف. بالرغم من المظاهر، لا يستطيع المرنم أن يقبل بأن الرباط مع الرب قد انقطع بشكل نهائي؛ وبينما يسأل السبب وراء التخلي غير المفهوم، يصرح بأن الله “إلهه” لا يستطيع أن يتخلى عنه.
كما هو معروف، إن الصراخ الذي يفتتح المزمور “إلهي إلهي، لماذا تركتني؟”، هو منقول في إنجيلي متى ومرقص كصراخ أطلقه يسوع المنازع على الصليب (راجع مت 27، 46 ؛ مر 15، 34). يعبّر الصراخ عن وجع وأسى المسيح، ابن الله، الذي يواجه مأساة الموت، وهي واقع يخالف بالكامل رب الحياة. لقد تخلى عنه جميع أتباعه، خانه وأنكره تلاميذه، وأحاط به مهينوه: يسوع يرزح تحت ثقل رسالة يجب أن تمر في الهوان وإفراغ الذات. لذا يصرخ إلى الآب، ويلبس ألمه كلمات المرنم المتوجعة. ولكن صراخه ليس صراخ يأس، كما لم يكن كذلك صراخ المرنم، الذي يرتاد في صلاته دربًا وعرة تصل في نهاية المقام إلى التسبيح، إلى الثقة بالنصر الإلهي. وبما أن التقليد العبري كان يستشهد بأول المزمور للتعبير عن القصيدة بأسرها، فصلاة يسوع – التي تحافظ على مكنونها من الألم الذي لا يوصف – تنفتح على ضمانة المجد. هذا ما يقوله القائم من الموت لتلاميذ عماوس: “ألم يكن ضروريًا أن يتألم المسيح لكي يدخل في مجده؟” (لو 24، 26). في آلامه، بالطاعة للآب، يعبر الرب يسوع خبرة التخلي والموت ليصل إلى الحياة وليهبها للمؤمنين.
يلي هذا الصراخ الأول في المزمور 22 – وبمقارنة مؤلمة – ذكر الماضي:
“عليك توكل آباؤنا
توكلوا فنجيتهم.
إليك صرخوا فنجوا
وعليك توكلوا فلم يخزوا” (الآيات 5 – 6).
هذا الاله الذي يبدو اليوم للمرنم بعيدًا جدًا، هو الرب الرحين الذي خبره إسرائيل على مدى تاريخه. الشعب الذي ينتمي المصلي إليه كان محط محبة الله ويستطيع أن يشهد لأمانته. بدءاً من الآباء، ومن ثم في مصر وفي مسيرة الصحراء الطويلة، في الإقامة في أرض الميعاد باتصال مع شعوب عدوة ومعادية، وصولاً إلى ظلام السبي… كل التاريخ الكتابي كان تاريخ صراخ معونة من قِبل الشعب وتاريخ أجوبة خلاصية من قِبل الله. ويشير المرنم إلى إيمان الآباء الذي لا يتزعزع، الذين “توكلوا” – يردد المرنم هذه الكلمة مرات ثلاث – فلم يخزوا.
ولكن الآن يبدو أن هذه السلسلة من الطلبات الواثقة والأجوبة الإلهية قد انقطعت؛ فحالة المرنم يبدو وكأنها تكذّب كل تاريخ الخلاص، فتجعل الواقع أكثر ألمًا.
ولكن الله لا يستطيع ألا يصدق، وها إن الصلاة تعود لتصف حالة المصلي المزرية، لكي تقود الرب إلى الرحمة والتدخل، كما فعل دومًا في الماضي. يصف المرنم نفسه بـ “دودة أنا، لا إنسان، مرفوض من البشر، محتقر من الناس” (الآية 7). يهان ويُستهزئ به (راجع الآية 8) ويُجرح في إيمانه: “فليلتجئ إلى الرب؛ فيحرره وينجيه إذا كان يحبه حقًا” (الآية 9): هذا ما يقوله الهازؤون به ساخرين ومستحقرين. يبدو وكأن المضطَهد قد فقط ملامحه البشرية، مثل العبد المتألم الذي يصوره أشعيا (راجع أش 52، 14؛ 53، 2 – 3). ومثل البار المضطهد في سفر الحكمة (راجع 2، 12 – 20)، ومثل يسوع على الجلجلة (راجع مت 27، 39 – 43)، يرى المرنم أن علاقته مع الرب قد وضعت على المحك، ويتم تسليط الضوء بشكل مجرم وساخر على ما يؤلمه: صمت الله، غيابه الظاهري.
ولكن الله حاضر في وجود المصلي في قرب وحنان لا يمكن نكرانهما. يذكر المرنم الربَّ بذلك: “أنت من البطن أخرجتني وعلى ثديي أمي طمأنتني، عليك من الرحم ألقيت” (الآيات 10 – 11). الرب هو إله الحياة، الذي يعطي الولادة ويقبل الوليد ويعتني به بعطف الأب. وإذا كان المرنم قد تذكر أولاً أمانة الله في تاريخ الشعب، فهو يذكر الآن تاريخه الشخصي في علاقته بالرب، فيعود إلى اللحظة الهامة التي هي بدء حياته. وهناك، بالرغم من البؤس السائد،
يعترف المرنم بقرب وبحب إلهيين جذريين لدرجة أنه يستطيع أن يهتف الآن، في اعتراف ملؤه الإيمان فائض بالرجاء: “من بطن أمي أنت إلهي” (الآية 11).
يضحي التذمر صلاة نابعة من القلب: ” لا تتباعد عني فقد اقترب الضيق ولا من معين” (الآية 12). القرب الوحيد الذي يشعر به المرنم والذي يرعبه هو قرب الأعداء. ولذا من الضروري أن يقترب الله وأن يسعفه، لأن الأعداء يحيطون بالمصلي، يحاصرونه، وهم مثل ثيران جبارة، مثل أسود تفتح أفواهها لتزأر وتفترس (راجع الآيات 13 – 14).
يحول الكدر القدرة على حدس الخطر فيعظمها. يظهر الأعداء وكأنهم لا يقهرون، يضحون حيوانات مفترسة وكاسرة، بينما المرنم هو مثل دودة صغيرة، ضعيفة، لا تقدر دفاعًا. ولكن هذه الصور التي يستعملها المزمور تفيد أيضًا لتقول لنا أن عندما يضحي الإنسان متوحشًا ويهاجم أخاه، يتغلب فيه شيء ما ذو طابع حيواني فيفقد كل مظهر إنساني؛ العنف يحتوي شيئًا على أمر حيواني ووحده تدخل الله يستطيع أن يعيد للإنسان إنسانيته. والآن يبدو وكأن ما من مهرب للمرنم الذي هو موضوع هجوم كاسح، ويبدأ الموت بالتحكم به: “مثل الماء انسكبت وتفككت جميع عظامي. […] كالخزف جف حلقي ولساني لصق بفكي […] يقتسمون بينهم ثيابي ويقترعرن على لباسي” (الآيات 15 . 16 . 19). من خلال صور دراماتيكية نجدها في أخبار آلام المسيح، يتم وصف تدمير جسد المحكوم عليه، والعطش الرهيب الذي يعذب المنازع ويجد صداه في طلب يسوع “أنا عطشان” (راجع يو 19، 28)، ليصل إلى البادرة النهائية التي يقوم بها القاتلون، الذين، مثل الجنود عند أقدام الصليب، يتقاسمون ثياب الضحية، باعتبارها قد ماتت (راجع مت 27، 35؛ مر 15، 24؛ لو 23، 34؛ يو 19، 23 – 24).
ومن هنا يعود من جديد طلب العون الملح: “وأنت يا رب، لا تتباعد يا قوتي، أسرع إلى نصرتي […] خلصني” (الآيات 20 . 22). هذا هو الصراخ الذي يفتح السماوات، لأنه يعلن إيمانًا ويقينًا يذهب أبعد من الشك، من كل ظلمة من كل بؤس. ويتحول النحيب فيترك المكان للتسبيح ولقبول الخلاص: ” لقد أجبتني. سأبشر أخوتي باسمك وفي وسط الجماعة أسبحك” (الآيات 22 – 23). وهكذا ينفتح المزمور على حمد الرب، ويشرع الأبواب للنشيد النهائي الذي يشمل كل الشعب، المؤمنين بالرب، الجماعة الليتورجية، الأجيال المستقبلية (راجع الآيات 24 – 32).
لقد جاء الرب للعون، خلص البائس وبين له وجه رحمته. التقت الحياة بالموت في سر لا ينفصل، وانتصرت الحياة، انتصر إله الخلاص الذي بين عن أنه الرب دون منازع، والذي تحتفل به جميع أقاصي الأرض وتسجد أمامه جميع شعوب الأرض. إنه نصر الإيمان، الذي يستطيع أن يحول الموت إلى هبة حياة، وغمر الموت إلى منبع رجاء.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، هذا المزمور قد حملنا إلى الجلجلة، إلى أقدام صليب يسوع، لكي نعيش آلامه ونتقاسم فرح القيامة الخصب. فلنسمح لنور السر الفصحي أن يجتاحنا حتى في غياب الله الظاهري، حتى في صمت الله، ومثل تلميذي عماوس، فلنتعلم أن نميز الواقع الحق من المظاهر، فنعرف مسيرة التمجيد في درب الاتضاع، وظهور الحياة في صلب الموت، في الصليب. وهكذا إذ نضع كل رجاءنا وثقتنا بالله الآب، يمكننا أن نصلي إليه نحن أيضًا بإيمان وسيتحول صراخ النجدة إلى نشيد تسبيح. شكرًا.
* * *
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية
حقوق النشر محفوظة لدار النشر الفاتيكانية