البطريرك الماروني: "لا يمكن أن يبادر الى البحث عن حل الأمور المستعصية من الشؤون الوطنية الا من كان لا يبحث عن خير الوطن بكامله، وخير جميع أبنائه"

عظة الأحد للبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير

Share this Entry

بكركي، 4 مارس 2007 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي العظة التي تلاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في قداس الاحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي بعنوان: “كان ميتا فعاش، وضالا فوجد” (لو15:24).

* * *

“تحدث انجيل اليوم عن الابن الشاطر الذي شطر مال أبيه فأخذ ما يحق له منه وذهب يقيم في بلد بعيد، أو الابن الضال الذي سئم الاقامة في البيت الوالدي، فتركه وراح يعيش وحده في التبذير والفجور، فخبر الفقر، والذل والعار، أو الابن الضائع، كما تقول احدى الترجمات، الذي خرج عن طاعة أبيه، فأضاع حياته، وفقد كرامته، وعندما انتبه الى ما هو فيه من شقاء، حزم أمره وعاد الى البيت الوالدي، فأقام له والده وليمة دعا اليها الأنسباء والأصدقاء ترحيبا بابنه الذي كان ميتا فعاش، وضائعا فوجد.
سيرة حياة هذا الابن الأصغر هي سيرة حياة كل منا، لذلك يقول أحد مشاهير الكتبة: “ما قرأت مرة هذا المثل الانجيلي، الا ترطبت عيناي بالدموع”. الابن الأصغر المسمى الضال عاد الى حضن البيت الوالدي، أما الابن الأكبر فكان يقيم في بيت أبيه، لكنه كان كأنه لا يقيم فيه، لأن تفكيره كان بعيدا عن تفكير أبيه، وبدلا من أن يشارك أباه فرحته بعودة أخيه، راح يتذمر وينحو باللائمة على أبيه لاستقباله أخاه الذي بدد أمواله بالفجور، ولم يحسبه كأبيه ضائعا فوجد، وميتا فعاش. إنا مؤمنون بالله، ولعلنا نقيم معه، ولكن تفكيرنا بعيد عنه، فحالنا حال الابن الأكبر. لذلك علينا أن نصحح المسيرة، فنكون مع الله بالفكر والواقع.
ونعود الى الحديث عن العائلة، فنرى أن اللغة المستعملة لها شأن في تحديد مفهوم العائلة الصحيح، وان العدالة لا بد منها في كل مجتمع، صغيرا كان أم كبيرا، ونورد مثل بعض القديسين القدامى، سائلين الله أن يهدينا سواء السبيل.
1-مبادئ لغوية عامة
ان البحث في شؤون اللغة، وشرحها، وأصل الألفاظ، واستعمالها في المجادلات والاستفهامات، كل هذا قد شغل العقل البشري طوال آلاف السنين. وقد بدأ ارسطو، الفيلسوف اليوناني الشهير، مثلا، ملاحظته بالتأكيد أنه:
“أولا، علينا أن نحدد ما هو الاسم، وما هو الفعل، وبعدئذ ما هو النفي، والتأكيد، والاعلان، والجملة. والحال، ان الظواهر هي رموز مشاعر النفس، والعلامات المكتوبة هي رموز الظواهر. وكما أن العلامات المكتوبة ليست هي ذاتها بالنسبة الى كل الناس، ان أصوات اللغة المحكية ليست هي ذاتها أيضا. ولكن ما تدل عليه أولا من علامات -أي مشاعر النفس- هي عينها بالنسبة الى جميع الناس. وان ما تشابهه هذه المشاعر -أي الأشياء الحسية – هي ذاتها”.
وهو يؤكد في مكان آخر أن:
” البيان أو الخطابة يخالف الجدل. والاثنان، بطريقة متشابهة، ينظران في الأشياء على ما يفهمها كل انسان بما له من معلومات عامة، وهي معلومات لا تعود الى أي علم خاص. وبالتالي، ان كل انسان يستعمل الاسلوبين، انطلاقا من أن جميع الناس يحاولون نوعا ما، ابداء آراء ويدعمونها، ليدافعوا عن ذواتهم، أو ليهاجموا الآخرين. والعامة من الناس ينطلقون حينا بطريقة عفوية، وحينا آخر باللجؤ الى ممارسة مألوفة أو الى عادة مكتسبة. وبما أن الطريقتين ممكنتان، يمكن التدخل في هذا الميدان بطريقة اسلوبية: وهكذا يمكن البحث عن السبب الذي من أجله يتحسن بعض الخطباء بالممارسة، بينما سواهم يتحسنون عفوا. ويتفق الجميع، من باب التأكيد، على الاقرار بأن هذا النوع من البحث هو في أساس احد الفنون…ودراسة الخطابة أو البيان تقنيا تتركز على طريقة الاقناع, والحال ان طريقة الاقناع هي نوع من التبيان…
2- العدالة والنظام في المجتمع
والكائنات البشرية، بما أنها أفراد، تمثل عادات وثقافات متمايزة، حاولت عبر التاريخ أن تشير الى وقائع معبرة بواسطة لغة تتفق وكل حالة، وكل ظرف. واذا أعطينا مثلا كتاب مؤسسات يوستينيانوس الذي نشر في الحادي والعشرين من تشرين الثاني سنة 533- ويوستينيانوس هو الأمبراطور البيزنطي الشهير الذي عاش في أواسط القرن السادس بعد المسيح، وخاض غمار حروب كثيرة شرقا وغربا، وترك أثرا قانونيا ملحوظا – نرى أنه نشر مجموعة قوانين لنشر العدالة والنظام في المجتمع. وان أول ما أشار اليه هو العلاقة بين العدل والقانون، وأكد أن “العدل هو الرغبة المستمرة والدائمة في اعطاء كل انسان ما له حق فيه. والاجتهاد هو لقاء متناسق بين الوقائع البشرية والالهية، ومعرفة ما هو عادل، وما هو ظالم”. ولغته هي، بطريقة متناسقة متطابقة، لغة القانون الحق، وفلسفتهما.غير أن الخطيب الروماني شيشرون، الذي عاش في أواسط القرن الأول ما قبل المسيح، يخالف هذا القول باسلوبه، ومحتواه، ونوعا ما بلغته أيضا.
وهذه التناقضات نجدها في الفلسفة والشعر والأدب على اختلاف أنواعه.
وكل جيل حاول أن يعرب اعرابا دقيقا ومؤاتيا عما هو حسن، وشريف، وجميل، وصادق في وضع الانسان، وفي تصرف الأفراد والجماعات البطولية أو ما سواها. وان كل التمثيليات الأدبية، على اختلافها، التي تحدثت عن المحرقة التي ارتكبها النازيون الألمان في حق أبناء شعبهم، انما هي أمثلة حديثة.
والتقليد اللاهوتي، والكتب المقدسة، قد لجأت دائما الى استعمال اللغة استعمالا دقيقا. فالمزامير مثلا، – سواء ما تعلق منها بالمراثي، أو المدائح، وغيرها من الأناشيد – فسفر أيوب، أو نشيد الأناشيد، اعتبرت دائما تعابير ليس لها مثيل عن اكثر الميول البشرية اثارة، واعمقها. وبالنسبة الى التقليد الكتابي البيبلي، ان الله وحده له حق الشرح، على ما جاء في سفر التكوين ا
لذي روى قصة يوسف، وقال ان ساقي الملك والخباز قالا ليوسف “رأينا حلما وليس لنا ما يعبره لنا، فأجابهما “أليس أن لله التعابير قصا علي” .
2-والخليقة عينها هي في الواقع كلمة الله.
ودراسة فن الشرح ترقى الى عهد اوريجانوس وأغوسطينوس، أي الى اواسط القرن الثالث والرابع. وعلاوة على ذلك، وبحسب التقليد، كل شخص وكل جماعة، عبر التاريخ، معنية بتمثيل مسيحاني يشابه ذاك الذي وصفه المزمور الثاني الذي يقول: ” لماذا ارتجت الأرض، وهذت الشعوب بالباطل. قام ملوك الأرض والعظماء ائتمروا على الرب وعلى مسيحه”. وان التلاعب باللغة قد لعب دورا أساسيا في “المأساة المسيحانية” لأن هذه اللغة قد استعملت لمهاجمة الحقائق الأساسية المتعلقة بالكرامة الذاتية لكل انسان مخلوق على صورة الله ومثاله، ومدعو لكي يعيش مدى الأبد في حضور الثالوث الأقدس. وبالطريقة عينها، ان الحقائق المتعلقة بالزواج، والعائلة، والحياة عينها، في جميع مراحلها، أعيد النظر فيها.
ولنأخذ مثلا من التقليد. يقال: ان التقليد النسكي تطور مع القديس برنردس. وكان هذا القديس من أبرز ممثليه، وقد شرح شرحا خاصا اللغة الكتابية، تحت تأثير البابا غريغوريس الكبير الذي عاش في أواخر القرن السادس. وكان هذا التقليد يتصرف بالنسبة الى النصوص على طريقة القراءة الحاخامية، التي بموجبها يشرح النص استنادا الى الذاكرة، وتؤول هذه القراءة المقدسة الى أكل هذا النص، نوعا ما. فكان يجب مضغه ليصبح جزءا من القارئ، ومن قلبه، وكيانه. وهكذا يصبح، نوعا ما، الشخص الذي يقرأ، فهرسا أو مكتبة حية. وهناك نوع آخر متصل بالتقليد اللاهوتي، وهو مفهوم يقول بأنه لا بد من الصلاة لفهم الكتاب المقدس، والاستمرار في تذوقه. وعرض الكتاب المقدس، على ما يقدمه القديس برنردوس، انسجاما مع التقليد المسيحي، يرمي دائما الى قيادة النفوس الى الله.
وهذا كله يقع ضمن تقليد روحي يحسب اللاهوت بالنسبة اليه “هو النور، والصلاة هي النار”. وقد حاول هذا التقليد حماية الحياة الالهية للأفراد والجماعة، وتغذيتها. وحاول أيضا حماية حياة الشعب الأخلاقية وتغذيتها. ولغة الكنيسة والذين انصرفوا الى الفن أو العلم المقدس الذي هو اللاهوت، عملت تباعا على تطوير لغة مقدسة، دون أن تعي ذلك دائما. وهذه اللغة شاركت في حماية البيئة الكنسية، الأخلاقية، والروحية، وجوهرها، وأثرت، كما فعلت دائما، على الحضارة والمجتمع اللذين عاش فيهما أعضاء الكنيسة وعملوا.
لا شك في أن اللغة تساعد، ان لم يكن على تفهم من هو الله، فعلى الأقل، على تفهم ما ليس هو، وعلى اكتناه الشؤون الروحية التي تضعنا على الطريق لنصل اليه. وكان الآباء الأقدمون يكبون على قراءة الكتاب المقدس “حتى عميت عيونهم”، على ما يقول أحد كتب الصلاة المارونية القديمة. وكانوا لا يقبلون على قراءته الا بالتميهد لها بالصلاة يقينا منهم أنه لا يفهم كتاب الله الا من كانت فيه روح الله.
ولا يمكن أن يبادر الى البحث عن حل الأمور المستعصية من الشؤون الوطنية الا من كان لا يبحث الا عن خير الوطن بكامله، وخير جميع أبنائه. وهذا يقتضي له تجرد تام عن كل أغراض خاصة، وأهداف شخصية، وغايات فئوية.
وما دام هناك مسؤولون لا يبتغون بتجرد تام خير جميع المواطنين دونما استثناء، فستظل أمورنا متعثرة، ووضعنا متأزما، وثقتنا باخراج وطننا مما يتخبط فيه، مطلبا عسيرا بلوغه.
وكم يحز في نفسنا أن نرى المسؤولين يتقاذفون، تقاذف لاعبي الكرة، مصالح الوطن، وبالتالي مصالح المواطنين، ويطعن بعضهم بشرعية البعض الآخر، فيما الوطن يروح يغرق كل يوم في لجة عميقة من الفوضى، ويروح المواطنون يبحثون عن عيش كريم خارج حدوده، وتتكاثر في الوطن الصغير حوادث السلب، والخلع، والاقتحام، في رابعة النهار.
اللهم عفوك، رد الطمأنينة الى القلوب الواجفة، والسلام الى الضمائر الحائرة”.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير