الافخارستيا والكنيسة
الافخارستيا: مبدأ الكنيسة السببي
14. من خلال سر الافخارستيا، يُشرك المسيح المؤمنين بـ “ساعته”؛ وبهذا الشكل يبين لنا عن الرباط الذي أراده معنا: بين شخصه والكنيسة. فمن خلال ذبيحة الصليب ولّد المسيح كنيسته كعروسه وجسده. وقد تأمل آباء الكنيسة مطولاً بالعلاقة القائمة بين أصل حواء من جنب آدم النائم (راجع تك 2، 21- 23) وأصل حواء الجديدة، الكنيسة، من جنب المسيح المفتوح، الغارق في سبات الموت: فمن جنبه المطعون – يقول يوحنا – خرج دمٌ وماء (راجع يو 19، 34)، رمز الأسرار.
إن نظرةً تأملية نحو “الذي طعنوه” (يو 19، 37) تحملنا على النظر إلى الرباط السببي بين ذبيحة المسيح، الافخارستيا والكنيسة. فالكنيسة “تعيش من الافخارستيا”. وإذ تُضْحي حاضرة فيها ذبيحة فداء المسيح، يجب أن نعترف بوجود “دور سببي للافخارستيا في تأسيس الكنيسة نفسها”.
فالافخارستيا هي المسيح الذي يهب نفسه لأجلنا، ويبنينا باستمرار كجسده. لذا هناك ترابط دائري بين الافخارستيا التي تبني الكنيسة، والكنيسة التي تحيي الافخارستيا، والسببية الرئيسية هي تلك الموجودة في العبارة الأولى: تستطيع الكنيسة أن تحتفل وأن تسجد لسر المسيح الحاضر في الافخارستيا لأن المسيح وهب ذاته للكنيسة من خلال تضحيته على الصليب في الأصل.
إن إمكانية “عمل” الكنيسة بالافخارستيا ترتكز على هبة المسيح لذاته. نكتشف هنا بعدًا مقنعًا في عبارة القديس يوحنا: “هو أحبنا أولاً” (1 يو 4، 19).
وهكذا نعترف، في مطلع كل احتفال، بأولوية هبة المسيح. ودور الافخارستيا السببي في أصل الكنيسة يكشف تقدم المسيح المطلق في “محبته لنا أولاً”، ليس من الناحية الزمنية وحسب بل من الناحية الأنطولوجية. فهو، منذ الأزل، ذاك الذي أحبنا أولاً.
الافخارستيا والشراكة الكنسية
15. تشكل الافخارستيا أساس كيان وعمل الكنيسة. لهذا السبب كانت المسيحية القديمة تستعمل التعبير نفسه، جسد المسيح (Corpus Christi) للدلالة على الجسد الذي ولد من مريم العذراء، وعلى جسد المسيح الكنسي.
تساعدنا هذه المعطيات التقليدية في التوصل إلى يقين أكبر لعدم إمكانية الفصل بين المسيح والكنيسة. فالرب يسوع، من خلال بذل ذاته ذبيحة لأجلنا، سبق فأعلن سر الكنيسة، بشكل فعال في هبته. من الأهمية بمكان أن الصلاة الافخارستية الثانية، حين تستدعي البراقليط، تتلو هذه الصلاة لأجل وحدة الكنيسة: “فلتجمعنا الشراكة في جسد ودم المسيح في جسد واحد”. يبين لنا هذا المقطع كيف أن حقيقة سر الافخارستيا هي وحدة المؤمنين في الشراكة الكنسية. تظهر الافخارستيا في هذا الإطار كأصل الكنيسة، التي هي سر شراكة.
لفت خادم الله يوحنا بولس الثاني الانتباه، في رسالته العامة “كنيسة الافخارستيا” (Ecclesia de Eucharistia)، إلى العلاقة بين الافخارستيا والشراكة. فتحدث عن تذكار المسيح كـ “الاعتلان الأسراري الأكبر لشراكة الكنيسة”.
تظهر وحدة الشراكة الكنسية بشكل عملي في الجماعات المسيحية وتتجدد في العمل الافخارستي الذي يجمع هذه الجماعات ويميزها ككنائس مفردة، “توجد فيها وتتكون منها كنيسة جامعة واحدة وفريدة” (in quibus et ex quibus una et unica Ecclesia catholica exsistit).
تُفهمنا حقيقة الافخارستيا التي يجري الاحتفال بها في كل أبرشية حول الأسقف كيف أن الكنائس الخاصة هي في الكنيسة (in Ecclesia) وتنبع منها (ex Ecclesia). بالواقع “إن وحدة وتلاحم جسد الرب الافخارستي يعني وحدة جسده السري، الذي هو الكنيسة الواحدة وغير المنقسمة. ينبع من المحور الافخارستي الانفتاح الضروري لكل جماعة تحتفل بالسر، ولكل كنيسة خاصة: فمن خلال انجذابها بين ذراعي المسيح المشرَّعين، تنضم إلى جسده الفريد وغير المنقسم”.
لهذا السبب، في كل احتفال افخارستي، يجد المؤمن نفسه في كنيسته هو، إي في كنيسة المسيح. إذا ما تم فهم هذا المنظار الافخارستي بالشكل الصحيح، تنكشف حقيقة الشراكة الكنسية بطابعها الجامع.
بامكان هذا التشديد على الأصل الافخارستي للشراكة الكنسية أن يساهم بشكل إيجابي في الحوار المسكوني بين الكنائس والجماعات الكنسية التي ليست في شراكة كاملة مع كرسي بطرس.
فالافخارستيا توطد رباط وحدة موضوعية وقوية بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأرثوذكسية التي حافظت على طبيعة سر الافخارستيا أصيلة وكاملة.
في الوقت عينه، من الممكن أن تصبح الأهمية المعطاة لطابع الافخارستيا الكنسي، عنصرًا مميزًا في الحوار مع الجماعات التي ولدت من الاصلاح.