الفاتيكان، 26 مارس 2007 (ZENIT.org). – ننشر في ما يلي خطاب الأب الأقدس إلى المشاركين في مؤتمر “50 سنة بعد معاهدة روما – قيم وتطلعات من أجل أوروبا الغد” الذي نظمته مجالس أساقفة الاتحاد الأوروبي (COMECE).
سادتي الكرادلة،
أيها الأخوة الأجلاء في الأسقفية
أيها السادة البرلمانيين،
سيداتي وسادتي!
يشرفني أن أستقبلكم اليوم بهذا العدد الغفير في هذه المقابلة، عشية الذكرى الخمسين لتوقيع اتفاقية روما، في 25 مارس 1957. لقد تم القيام حينها بخطوة هامة في تاريخ أوروبا، التي خرجت منهوكة القوى من الحرب العالمية الثانية وكانت ترجو أن تبني مستقبل سلام وبحبوحة اجتماعية واقتصادية، دون أن تذيب أو ترفض تنوع الهويات الوطنية. […].
ومنذ ذلك الوقت، قامت القارة الأوروبية بمسيرة طويلة أدت إلى المصالحة بين “الرئتين” – الشرق والغرب – اللتين ترتبطان عبر تاريخ مشترك ولكنهما انفصلتا بشكل اعتباطي عبر جدار من اللاعدالة.
لقد شجع الدمج الاقتصادي الدمج السياسي وفتح مجال البحث، ولو بصعوبة، عن هيكلية مؤسساتية مناسبة للاتحاد الأوروبي الذي يضم الآن 27 دولة، والذي يبغي أن يصبح عنصرًا فاعلاً على الصعيد العالمي.
تزايد الوعي في السنوات الأخيرة لضرورة إيجاد توازن بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي، من خلال سياسة قادرة على إنتاج الثروات وزيادة المنافسة، دون التغاضي عن تطلعات الفقراء والمهمّشين المشروعة.
من المنظار الديموغرافي، يجب أن نلاحظ، مع الأسف، أن أوروبا تسير في طريق قد يؤدي بها إلى الخروج من التاريخ. وهذا الأمر، إلى جانب المخاطر التي يحملها في المجال الاقتصادي، يمكنه أن يؤدي إلى صعوبات في التناغم الاجتماعي، وبالأخص، يمكنه أن يعزز فردانيةً خطيرة، لا تأبه بالنتائج المستقبلية.
يمكننا أن نفكر بأن القارة الأوروبية، بالواقع، هي في طريقها إلى فقدان الإيمان بمستقبلها. علاوة على ذلك، في ما يتعلق باحترام البيئة مثلاً، أو في ما يتعلق باستهلاك الموارد واستثمار الطاقة، نلاحظ صعوبة العمل على التعاضد، لا على الصعيد الدولي، بل على الصعيد المحلي أيضًا.
تبدو عملية التوحيد الأوروبية غير مقبولة من الجميع، وذلك بسبب الصورة التي تُظهر، وكأن بعض “فصول” المشروع الأوروبي قد “كُتبت” دون اعتبار مناسب لتطلعات المواطنين.
من هنا نستنتج أنه من غير الممكن بناء “بيت أوروبي مشترك” يهمل هوية شعوب قارتنا الخاصة. فنحن بصدد هوية تاريخية، ثقافية وخلقية، قبل أن تكون جغرافية، اقتصادية، أو سياسية؛ هوية مبنية على مجموعة قيم شاملة، ساهمت المسيحية في صياغتها، فقامت بذلك بدور ليس تاريخيًا وحسب، بل تأسيسيًا للقارة.
يجب أن تبقى هذه القيم، التي هي روح القارة، “خميرة” حضارة في أوروبا الألفية الثالثة. لأنه كيف تستطيع القارة “القديمة” أن تكون “خميرة” للعالم أجمع إذا ما ضاعت هذه القيم؟
كيف تستطيع حكومات الاتحاد، الراغبة أن “تتقرب” من مواطنيها، أن تقوم بهذا الأمر، إذا ما حذفت عنصرًا أساسيًا من الهوية الأوروبية كالمسيحية، التي تنضوي تحت لوائها الأكثرية الكبرى من مواطني الاتحاد؟
أليس مدعاة للعجب أن أوروبا الحالية، بينما تتوق إلى تقديم ذاتها كجماعة قيم، يبدو وكأنها تناهض باستمرار فكرة أن تكون هناك قيم عالمية وشاملة؟
ألا يدفعها هذا الشكل الفريد من “الجحود” الذي تقوم بها تجاه نفسها قبل أن تقوم به تجاه الله، إلى الشك بهويتها؟
ينتهي الأمر بها إلى التوصل إلى القناعة بأن “المراوغة على القيم” هي السبيل الوحيد إلى التمييز الأخلاقي وأن الخير العام هو مرادف للمراوغة.
في الواقع، إذا أصبحت المراوغة ركيزة التوازن القانوني في المصالح الخاصة المتنوعة، تتحول إلى شر عام كلّ مرة تؤدي إلى اتفاقات تضر بالطبيعة البشرية.
إن جماعةً تُبنى دون احترام لكرامة الشخص البشري الحقيقية، متناسية أن كل إنسان هو مخلوق على صورة الله، ينتهي بها الأمر إلى عدم القيام بالخير لصالح أحد. ولهذا السبب، من الضرورة بمكان أن تنتبه أوروبا إلى عدم الوقوع في الموقف البرغماتي، المتفشي حاليًا، والذي يبرر بشكل متواصل المراوغة على القيم الإنسانية الأساسية، كما لو أن القضية قضية قبول لشر أدنى لا مفر منه.
هذه البرغماتية، التي يجري تقديمها كأمر متزن وواقعي، بالحقيقة ليست كذلك، لأنها تنفي بُعد القيم والمُثُل المتعلقة جوهريًا بالطبيعة البشرية.
وعندما تتسرب إلى هذه البرغماتية ميول وتيارات علمانية ونسبية، يتم التوصل إلى إنكار حق المسيحيين بالتدخل في الجدل العام، أو على الأقل، يجري رفض مساهمتهم بتهمة سعيهم للحصول على امتيازات لا مبرر لها.
في هذه اللحظة التاريخية، وأمام التحديات العدة التي ترافقها، يجب على الاتحاد الأوروبي، لكي يكون محاميًا شرعيًا للحقوق ومشجعًا عالميًا للقيم الشاملة، أن يعترف بوضوح بوجود طبيعة بشرية ثابتة ودائمة، مصدر حقوق مشتركة لجميع الأفراد، حتى الذين يرفضون هذه الحقوق.
في هذا الإطار، ينبغي الحفاظ على حق اعتراض الضمير كل مرة يجري التعرض للحقوق الإنسانية الأساسية.
أيها الأصدقاء الأعزاء، أعرف كم هو صعب على المسيحيين أن يدافعوا بثبات عن حقيقة الإنسان. ولكن لا تتوانوا ولا تخورنّ عزيمتكم! فأنتم تعرفون أنه من واجبكم أن تساهموا بعون الله في بناء “أوروبا جديدة”، واقعية ولكن غير متهكمة، غنية بالمُثل المستوحاة من حقيقة الإنجيل الأبدية وال
محيية، وحرة من الأوهام الساذجة.
لهذا السبب كونوا حاضرين بشكل فاعل في الجدل العام الأوروبي، عارفين بأنه بات جزءًا لا يتجزأ من الجدل الوطني، وادعموا هذا الالتزام بعمل ثقافي فعال. لا تخضعوا لمنطق السلطة لأجل ذاتها! فليكن تحريض المسيح حافزًا لكم: إذا فسد الملح، لا ينفع لشيء إلا لأن يطرح خارجًا ويداس (راجع متى 5، 13).
فليجعل الرب جهودكم مثمرة ويساعدكم لتكتشفوا العناصر الإيجابية الموجودة في الحضارة المعاصرة وأن تقيموها، منددين بشجاعة بكل ما هو معادٍ لكرامة الإنسان.
أنا أكيد أن الرب لن يتوانى عن مباركة الجهود السخية التي يقوم بها، بروح خدمة، العاملون على بناء بيت أوروبي مشترك، يهدف فيه كل جهد ثقافي واجتماعي وسياسي إلى الخير المشترك.
أعبر لكم، أنتم الملتزمين بأشكال مختلفة في المشروع البشري والإنجيلي، عن مساندتي وتشجيعي.
أؤكد لكم الذكر في الصلاة وبينما أطلب شفاعة مريم، أم الكلمة المتأنس، لأجلكم، أمنحكم من كل قلبي مع عائلاتكم وجماعاتكم بركة حارة.