“الأزمة الفعلية ليست مجرد أزمة مالية”
نيويورك، الاثنين 3 نوفمبر 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي الرسالة التي تلاها يوم الخميس رئيس الأساقفة تشيلستينو ميليوري، المراقب الدائم للكرسي الرسولي لدى الأمم المتحدة، حول الأزمة المالية العالمية.
***
سيدي الرئيس،
إن العديد من العلماء الاقتصاديين والمحللين يُجمعون على أن الأزمة يمكن أن تُعزى إلى فقدان نظام تنظيمي شامل وفعال، وأكثر من ذلك إلى تجاهل كبير للبنى التنظيمية والرقابية، فضلاً عن قوانين المساءلة والشفافية.
وهذا الرأي يحظى بتأييد وفدي الذي يخطو خطوة إضافية ويعتبر بأن الأزمة الواقعة ليست مجرد أزمة مالية، اقتصادية، وتقنية، بل تتسع إلى نطاق أوسع من القواعد الأخلاقية والسلوك الأخلاقي. فالكسب الجامح والسعي وراء الربح غير المشروع بأي ثمن جعلا الناس ينسون القواعد الأساسية للأخلاقيات المهنية.
يجب ألا تقتصر ردة فعلنا على التأسف والتعبير بشكل رسمي عن تعاطفنا مع البلدان الأقل فقراً، والطبقات الاجتماعية التي تأثرت من جراء هذه الأزمة؛ لا بل يجب علينا إيجاد السبل والوسائل التي تجنبنا أزمات مماثلة في المستقبل.
في بعض الحالات، إن الحكومات والمؤسسات التي طبقت القوانين بصرامة على معدل أدنى من العمالة، لم تتمكن من الحفاظ على الصرامة عينها على المستوى الأعلى. وهذا الأمر ينطبق على الأنظمة الاقتصادية في البلدان الأقل فقراً. أما المؤسسات المالية العالمية التي طبقت بدقة الشروط والرقابة في البلدان السائرة في طور النمو، فقد أهملت القيام بذلك خلال مراقبة الاقتصاد في البلدان المتطورة. وما يحصل الآن هو أن الاقتصاد الذي انهار في البلدان الأخيرة تتحمل تبعاته أيضاً البلدان التي تم ذكرها أولاً.
إن الحكم هو ممارسة فضيلة التعقل في اتخاذ التدابير التشريعية والتنفيذية القادرة على توجيه النشاط الاقتصادي نحو المصلحة العامة. ويقضي مبدأ التبعية أن تكفل الحكومات والوكالات الدولية الكبيرة، التضامن على الصعيدين الوطني والعالمي وبين الأجيال.
أما الملاحظة الثانية فإنها تتعلق بالمسؤولية التي تقع على عاتق العاملين في القطاع المالي. فعلى الرغم من أن الإقراض يشكل نشاطاً اجتماعياً ضرورياً، إلا أن المؤسسات والوكلاء في القطاع المالي مسؤولون عن ضمان تأدية الإقراض وظيفته الفعلية في المجتمع وذلك من خلال ربط المدخرات بالإنتاج. ولكن إن اعتُبر الإقراض مجرد مصطلح في مقايضة الموارد المالية، من دون النظر إلى استخدامها المعقول، فإنه يفشل في أن يكون خدمة للمجتمع. وعندما تتم المحاولات من أجل حجب الخطر الفعلي من عدم تسديد القروض، يُخدع المدخرون ويصبح المقرضون شركاء حقيقيين في السرقة.
يجب ألا ننسى أنه يوجد على هامش النظام المالي أشخاص متقاعدين، ومؤسسات عائلية صغيرة، وصناعات منزلية، وأعداد لا تحصى من الموظفين تشكل مدخراتها وسيلة دعم أساسية لها. إن النشاط المالي يحتاج إلى شفافية كافية تخول المدخرين الأفراد، وبخاصة الفقراء منهم والأقل تمتعاً بالحماية، أن يفهموا مصير مدخراتهم. وهذا الأمر لا يدعو فقط إلى اتخاذ تدابير رقابة فعالة من قبل الحكومات، بل أيضاً إلى معيار عال من السلوك الأخلاقي من قبل القادة الماليين أنفسهم.
والملاحظة الثالثة التي لعلها الأكثر أهمية، فهي تتعلق بالجمهور العام وخياره للقيم وأساليب العيش. إن أسلوب العيش، لا بل أكثر من ذلك، إن النموذج الاقتصادي القائم فقط على استهلاك متزايد وغير موجه، وليس على المدخرات وخلق رأسمال إنتاجي، هو غير مستدام من الناحية الاقتصادية. كذلك فإنه يصبح غير مستدام من وجهة القلق حيال البيئة، وقبل كل شيء، من وجهة كرامة الإنسان نفسها، إذ يتخلى المستهلك غير المسؤول عن كرامته كمخلوق عاقل، وينتهك أيضاً كرامة الآخرين.
من خلال النظر إلى المستقبل، نلمس الحاجة إلى إعادة المصداقية والموثوقية إلى الإقراض الذي يحتاج دوماً إلى أن يكون جزءاً من سلسلة إنتاج السلع والخدمات، وليس نشاطاً مستقلاً.
ولكن قبل كل ذلك، تبرز الحاجة إلى الاستثمار في الشعوب. عند انتهاء عمليات الإنقاذ المالية الحتمية، يجب على الحكومات والأسرة الدولية أن تستثمر أموالها في مساعدة أفقر الشعوب.
فالتجربة الأخيرة والإيجابية نسبياً للقروض الصغيرة تظهر بشكل متناقض ظاهرياً، بأن هؤلاء الذين يُعتبرون الأقل ملاءمة للحصول على القروض من ناحية الحساب المالي المدروس وغير الميسر، هم على العموم المقترضون الأكثر جدية وموثوقية.
كذلك فإن تاريخ البلدان المتطورة يثبت بأن الإعانات في قطاعات الصحة، والتربية، والإسكان، والخدمات الأساسية الأخرى التي تُعين المستويات الاجتماعية والاقتصادية الأضعف في المجتمع، العائلات والجماعات الصغيرة، تُثبت أخيراً بأنها الاستثمارات الأكثر ربحاً إذ أنها الوحيدة التي تضمن العمل المتناغم للمجتمع ككل.
نقلته من الإنكليزية إلى العربية غرة معيط – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)