كلمة البابا إلى اللجنة البيبلية

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

“الله حقاً يخاطب الرجال والنساء بطريقة إنسانية”

حاضرة الفاتيكان، الخميس 7 مايو 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي الكلمة التي وجهها بندكتس السادس عشر في 23 أبريل إلى أعضاء اللجنة الحبرية البيبلية المجتمعين في الجمعية العامة.

***

صاحب السيادة،

أعضاء اللجنة الحبرية البيبلية الأعزاء،

يسعدني أن أستقبلكم مجدداً في ختام جمعيتكم العمومية السنوية. أشكر الكاردينال ويليام ليفادا على تحياته وعرضه الموجز للموضوع الذي بحثتم به خلال اجتماعكم.

لقد اجتمعتم مرة أخرى من أجل دراسة موضوع مهم جداً وهو وحي الكتاب المقدس وحقيقته. هذا الموضوع لا يتعلق فقط باللاهوت بل بالكنيسة بذاتها لأن حياة الكنيسة ورسالتها تقومان بالضرورة على كلمة الله التي هي جوهر اللاهوت ووحي الحياة المسيحية في آن معاً. علاوة على ذلك فإن الموضوع الذي تناولتم الحديث عنه يجيب عن القلق الذي ينتابني لأن تفسير الكتاب المقدس هو ذات أهمية كبيرة للإيمان المسيحي وحياة الكنيسة.

كما ذكرتم أيها الكاردينال الرئيس، فقد قدم البابا لاوون الثالث عشر إلى المفسرين الكاثوليك تشجيعاً جديداً وتعليمات جديدة حول موضوع الوحي والحقيقة وتفسير النصوص البيبلية في رسالته العامة “عناية الله” (Providentissimus Deus). ولاحقاً جمع بيوس الثاني عشر التعليم السابق وتممه في رسالته “بفيض من الروح القدس” “Divino afflante Spiritu” “وحث المفسرين الكاثوليك على إيجاد حلول تنسجم مع عقيدة الكنيسة، مع الأخذ بالاعتبار المساهمات الإيجابية لطرق التفسير الجديدة التي تطورت في تلك الأثناء.

إن الدفع القوي الذي أعطاه هذان الحبران الأعظمان للدراسات البيبلية، كما ذكرتم أيضاً، تم التأكيد عليه وتوسيعه بالكامل في المجمع الفاتيكاني الثاني فاستفادت منه الكنيسة في الماضي وما تزال تستفيد منه الآن. وما يزال الدستور العقائدي “كلمة الله” (Dei Verbum) بخاصة ينير عمل المفسرين الكاثوليك اليوم ويدعو الرعاة والمؤمنين إلى أن يقتاتوا بانتظام من مائدة كلمة الله.

في هذا الصدد، يذكر المجمع أولاً بأن الله هو مؤلف الكتاب المقدس: “إن الوقائع الإلهية الظاهرة التي يشتمل عليها الكتاب المقدس كتبت بوحي من الروح القدس. والكنيسة الأم المقدسة التي تقوم على إيمان العصر الرسولي، تعتبر كتابي العهدين الجديد والقديم مقدسين وكنسيين، بالكامل وبكل أجزائهما، على أساس أن الله مؤلفهما بما أنهما كتبا بوحي من الروح القدس وأنهما هكذا أعطيا للكنيسة” (كلمة الله، رقم 11).

لذلك وبما أنه يجب اعتبار أقوال المؤلفون الملهمون أو مؤرخو القديسين أقوالاً من الروح القدس المؤلف السامي وغير المنظور، وبالتالي لا بد من الاعتراف بأن “الكتاب المقدس بجزءيه القديم والجديد يعلم بأمانة وحزم ومن دون أي خطأ تلك الحقيقة التي أراد الله رؤيتها معهودة إلى الكتاب المقدس من أجل خلاصنا (المرجع عينه، رقم 11).

من التعريف الصحيح للوحي الإلهي والحقيقة في الكتاب المقدس، تنشأ معايير معينة متعلقة بتفسيره. فالدستور العقائدي “كلمة الله”، وبعد تأكيده على أن الله هو مؤلف الكتاب المقدس، يذكرنا بأن الله يخاطب الإنسان في الكتاب المقدس بطريقة إنسانية. وهذا التعاضد الإنساني الإلهي مهم جداً إذ أن الله يتحدث فعلاً إلى الإنسان بطريقة إنسانية. لذلك وبغية تفسير صحيح للكتاب المقدس لا بد من البحث جيداً عما أراد المؤرخون قوله وما أراد الله إظهاره بكلمات بشرية.

“إن كلمات الله المعبر عنها بكلمات بشرية أصبحت شبيهة باللغة البشرية تماماً كما حصل مع كلمة الله الأبدي الذي حمل عاهة الإنسان وصار إنساناً” (كلمة الله، 13).

علاوة على ذلك، فإن هذه التعليمات الضرورية لتفسير تاريخي وأدبي سليم كبعد أول لكافة التفسيرات تتطلب صلة بالمقدمات المنطقية العقائدية حول إلهام وحقيقة الكتاب المقدس. ففي الواقع، ونظراً إلى أن الكتاب ملهم، فهناك مبدأ سامٍ لتفسيره الصحيح تبقى من دونه الكتابات المقدسة رسالة ميتة من الماضي: “لا بد من قراءة الكتاب المقدس وتفسيره على ضوء الروح الإلهية التي كتب بها” (كلمة الله، رقم 12).

في هذا الصدد، يحدد المجمع الفاتيكاني الثاني ثلاثة معايير مخصصة لتفسير الكتاب المقدس وفقاً للروح الذي ألهمه.

من الضروري الانتباه أولاً إلى مضمون ووحدة الكتاب ككل لأن وحدته فقط هي التي تجعل منه كتاباً. وبالتالي مهما اختلفت الكتب التي تؤلفه فالكتاب المقدس واحد بموجب وحدة مخطط الله الذي يمثل يسوع المسيح جوهره وقلبه (لو 24: 25، 27؛ لو 24: 44، 46).

ثانياً، لا بد من تفسير الكتاب في إطار التقليد الحي للكنيسة جمعاء. فأوريجانوس يقول: “إن الكتاب المقدس كتب في الكنيسة قبل أن يكتب على الوثائق المادية”.

إن الكنيسة تحمل حقاً في تقليدها الذكرى الحية لكلمة الله، والروح القدس هو الذي يعطيها تفسير هذه الكلمة وفقاً للمعنى الروحي (أوريجانوس، Homilae in Levictim، 5، 5).

ثالثاً، لا بد من الانتباه إلى تشابه الإيمان، أي إلى اتساق الحقائق الإيمانية مع بعضها البعض ومع مخطط الوحي وكمال التدبير الإلهي الموجود فيه.

تقوم مهمة الباحثين الذين يدرسون الكتاب المقدس بمختلف الطرق على المساهمة في تعريف وتفسير معنى الكتاب المقدس بشكل أعمق وفقاً للمبادئ المذكورة أعلاه. إن الدراسة العلمية للنصوص المقدسة هي مهمة إلا أنها لا تكفي وحدها لأنها تراعي فقط البعد الإنساني. بغية مراعاة تماسك إيمان الكنيسة، يجب على المفسر الكاثوليكي أن يتنبه إلى إدراك كلم
ة الله ف يهذه النصوص ضمن إيمان الكنيسة بذاتها.

ولكن في حال غياب هذه النقطة المرجعية المهمة، سيظل البحث التفسيري غير كامل ويغفل عن هدفه الأساسي، ويكاد يتقلص إلى تفسير أدبي محض يختفي فيه وجود الله المؤلف الحقيقي.

إضافة إلى ذلك، لا يمكن أن يكون تفسير الكتاب المقدس مجهوداً علمياً فردياً وإنما لا بد من مقارنته دوماً مع تقليد الكنيسة الحي وإدراجه فيه وتوثيقه من خلاله. هذا المعيار هو حاسم لتحديد الصلة الصحيحة والمتبادلة بين التفسير وتعليم الكنيسة. والمفسر الكاثوليكي لا يشعر فقط بأنه ينتمي إلى الجماعة العلمية بل أيضاً وأولاً إلى جماعة المؤمنين من كل الأزمنة. ففي الواقع أن هذه النصوص لم تعط للباحثين أو للجماعة العلمية “لإرضاء فضولهم أو لتوفير مواد دراسة أو بحث لهم” (بفيض من الروح الالهي، 566).

إن النصوص التي ألهمها الله أعطيت أولاً إلى جماعة المؤمنين، إلى كنيسة المسيح، لتنمية حياة الإيمان وإرشاد حياة المحبة. واحترام هذه الغاية يحدد صحة وفعالية التفسيرات البيبلية. لقد ذكرت الرسالة العامة “عناية الله” بهذه الحقيقة الأساسية، وأشارت إلى أن مراعاة هذا المعيار يشجع التقدم الحقيقي بعيداً عن عرقلة البحث البيبلي. أقول أن تفسيراً عقلانياً للإيمان يتناسب أكثر مع حقيقة هذا النص أكثر من تفسي عقلاني لا يعرف الله.

إن الأمانة للكنيسة تعني الانخراط في تيار التقليد العظيم الذي فهم الكتابات الكنسية تحت إشراف التعليم ككلمة موجهة من الله إلى شعبه والذي لم يتوقف يوماً عن التأمل بها واكتشاف ثرواتها التي لا تنضب. وقد أعاد المجمع الفاتيكاني الثاني التأكيد على ذلك بكل وضوح: “كل ما يتعلق بطريقة تفسير الكتاب المقدس يخضع لحكم الكنيسة التي تؤدي خدمتها وتفويضها اللذين نالتهما من الله من أجل المحافظة على كلمة الله وتفسيرها” (كلمة الله، رقم 12).

وحسب ما يذكرنا الدستور العقائدي المذكور أعلاه، فهناك وحدة متصلة قائمة بين الكتاب المقدس والتقليد لأن الاثنين مشتقان من المصدر عينه: “إن التقليد المقدس والكتاب المقدس يرتبطان إذاً ببعضهما البعض ويتواصلان فيما بينهما. لأن الاثنين اللذين ينبعان من مصدر إلهي واحد، لا يشكلان وحدة تامة ويرميان إلى الهدف عينه. الكتاب المقدس هو كلمة الله لأنه مكتوب بإلهام من الروح القدس؛ أما التقليد المقدس فهو يحمل كلمة الله التي أعطاها المسيح الرب والروح القدس للتلاميذ، وينقلها إلى خلفاء الرسل لكيما يحفظونها ويفسرونها وينشرونها بمساعدة الروح القدس. وبالتالي فإن الكنيسة لا تستمد ثقتها حول جميع نقاط الوحي فقط من الكتاب المقدس. لذلك لا بد من قبول وتكريم الكتاب والتقليد بمشاعر من المحبة والاحترام” (كلمة الله، رقم 9).

وكما نعلم فإن عبارة “مشاعر المحبة والاحترام” ألفها القديس باسيليوس ومن ثم تكررت في مرسوم غراتيان الذي دخلت من خلاله إلى مجمع ترانت ومن بعده إلى المجمع الفاتيكاني الثاني. وهي تعبر تماماً عن هذا التداخل بين الكتاب والتقليد. وحده الإطار الكنسي يسمح بفهم الكتاب المقدس ككلمة الله الحقيقية التي تكون مرشداً ومعياراً وقاعدةً لحياة الكنيسة ولنمو المؤمنين الروحي. وكما قلت آنفاً، هذا لا يمنع من العمل على تفسير جدي وعلمي بل يتيح مجال معرفة أبعاد المسيح الأخرى التي لا يمكن إدراكها فقط من خلال تحليل أدبي غير قادر على فهم المعنى الكلي الذي أرشد تقليد شعب الله أجمع على مر العصور.

أعضاء اللجنة الحبرية البيبلية الأعزاء، أود اختتام كلمتي بالتعبير لكم عن امتناني وتشجيعي لكم. أشكركم بحرارة على العمل الشاق الذي تقومون به في خدمة كلمة الله والكنيسة من خلال الأبحاث والتعليم ونشر الدراسات. إلى ذلك أضيف تشجيعي لكم على أعمالكم المستقبلية. ففي عالم تزداد فيه أهمية البحث العلمي في العديد من المجالات، من الضروري أن يصل العلم التفسيري إلى مستوىً جيد. هذا هو أحد جوانب انثقاف الإيمان الذي يشكل جزءاً من رسالة الكنيسة بالتوافق مع تقبل سر التجسد.

إخوتي وأخواتي الأعزاء، فليرشدكم الرب يسوع المسيح، كلمة الله المتجسد والمعلم السماوي الذي فتح أذهان تلاميذه لفهم الكتب المقدسة (لو 24، 45) ويؤازركم في تفكيركم.

ولتعلمكم العذراء مريم، مثال الطاعة لكلمة الله، قبول ثروات الكتاب المقدس التي لا تنضب ليس فقط من خلال البحث الفكري وإنما أيضاً في حياتكم كمؤمنين لكيما تساهم أعمالكم وأفعالكم في جعل نور الكتاب المقدس يشع أكثر أمام المؤمنين.

فيما أؤكد لكم على دعمي لجهودكم، أمنحكم بركتي الرسولية عربون فضل إلهي.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير