بقلم الأب يوأنس لحظي جيد

روما، الاربعاء 27 مايو 2009 (zenit.org). – ننشر في ما يلي القسم الثاني من تعليق الأب يوأنس لحظي جيد رئيس تحرير موقع كنيسة الإسكندرية الكاثوليكي.

بعيدا عن الأوهام: الحقيقة والوضوح

إن قداسة البابا هو رأس الكنيسة الكاثوليكية، يتبعه مليار وأكثر من مائتين مليون كاثوليكي، وبالتالي فمن أساسيات دوره ومن واجبات رسالته الشهادة للإيمان المسيحي، وبالتالي قول أن السيد المسيح بالنسبة للمسيحيين هو ابن الله وهو "الطريق والحق والحياة" وهو كمال الكشف الإلهي وأنه به الخلاص... وهذه هي أساسيات الإيمان المسيحي، وقداسة البابا لا يستطيع أن يقول خلاف ذلك، ومهما عَالتْ الصرخات والهجمات الإرهابية والاضطهاد لن يقول خلاف ذلك.

ولكنه في ذات الوقت يعلن دائما أن الإيمان المسيحي هو "دعوة" لمحبة الجميع، وحتى الأعداء، وأن القول: الله محبة يعني الربط بين محبة الله ومحبة القريب. فنجده يقول في المسجد بعمان: "الرابط العميق بين محبة الله ومحبة القريب وآذلك أيضا التضارب الأساسي الكامن في اللجوء إلى العنف والتهميش باسم الله. (الله محبة، 16)". حب لا عنف، لأن الحب يتنافي مع العنف.

وقد قال أيضا في القداس الإلهي بإستاد عمان مخاطبا المسيحيين: "إن الأمانة لجذوركم المسيحية ولرسالة الكنيسة في الأرض المقدسة تطلب من كل واحد منكم شجاعة مميزة: شجاعة المشاركة في الحوار والعمل إلى جانب باقي المسيحيين لخدمة الإنجيل والتضامن مع الفقير والمهجر وضحايا مآس بشرية عميقة، شجاعة بناء جسور جديدة تتيح المجال أمام لقاء مثمر بين شعوب من ديانات وثقافات مختلفة بشكل يغني النسيج الاجتماعي. وهذا يعني أيضا الشهادة للمحبة التي تحملنا على "بذل" حياتنا لخدمة الآخرين لمناقضة نمط تفكير من يبررون "سلب" حياة أبرياء آخرين" (9).

البيان المشترك للجنة الحوار المسيحي الإسلامي:

وقد استمر الفاتيكان في الحوار المسيحي الإسلامي، ورحب برسالة 138 التي تم توجيها لقداسة البابا وقد وقعت لجنة الحوار الديني على بيان مشترك (10) جاء فيه:

"إن الحياة البشرية هي هبة ثمينة منحها الله لكل إنسان. لذلك، يجب الحفاظ عليها واحترامها في جميع مراحلها.... تقتضي محبة القريب الحقيقية احترام الشخص وخياراته في مسائل العقل والدين. وتتضمن حق الأفراد والجماعات في ممارسة شعائرهم الدينية سراً وعلانية....  للأقليات الدينية الحق في أن يتم احترامها بقناعاتها وشعائرها الدينية الخاصة بها. كما لها الحق في أماكن العبادة الخاصة بها. ويجب ألا تتعرض صورها ورموزها الأساسية التي تعتبرها مقدسة إلى أي شكل من أشكال التهكم والسخرية. ... نعترف بأن الكاثوليك والمسلمين مدعوون إلى أن يكونوا أدوات محبة وتناغم بين المؤمنين، ومن أجل البشرية جمعاء، بنبذ القمع، والعنف والإرهاب المرتكب باسم الدين، ودعم مبدأ العدالة للجميع"(11).

 

وهنا نتساؤل أين الدول العربية التي تنفذ هذا الكلام؟ وأين الحرية الدينية وحرية العبادة وحرية إقامة أماكن العبادة؟ وأين القوة الفعلية لهذه اللجنة؟ ومن تمثل؟ وهل هذه الوثيقة ملزمة للجميع المسلمين بقدر أنه ملزمة لمليار ومائتين مليون كاثوليكي؟ مجرد تساؤل!

قناة الجزيرة ونهج الرأي والرأي الأوحد

وهنا يصل بنا الحديث إلى قناة الجزيرة (قناة التهيج والإثارة) ونتساءل: ألم يحن وقت النضج لهذه القناة؟ وقد أصبحت واحدة من أهم القنوات الإخبارية، ولكنها حتى الآن لم تفهم أن أسلوب البكاء والعويل لم يعد يناسبها كما كان يناسبها في البداية، وسط عالم مليء بالقنوات الإخبارية، لجذب أكبر عدد من المشاهدين، ولخلق اسم خاص بها.

أما الآن فلماذا تسير على نفس النهج؟ وبدلا من أن تترك ثوب الأطفال وترتدي ثوب النضوج تأب ترك الطفولة، وترفض النضوج، وتستمر في أسلوبها القديم الذي لم يعد يناسبك... وكأنها امرأة ترتدي ثياب طفولتها...

لقد حان الوقت لترك أسلوب الهجوم والرأي الأوحد، للوصول إلى الرأي والرأي الآخر كما تتغنى، ففي الحقيقة هي قناة تعرض الرأي الآخر فقط عندما يتوافق مع رأيها وتحجب وتخرس أي أراء لا تتوافق معها ومع أسلوبها الطفولي...

ونتساءل: ألم يحن الوقت لعرض الأخبار بحيادية ونضج دون البحث عن ما يهيج وما يثير العواطف الدينية والقومية؟ ... ألم يحن الوقت للتعلم من القنوات الإخبارية المحترمة العالمية التي تعرض الأخبار بقدر كبير من الموضوعية والحيادية؟ ... ألم يحن الوقت للكف عن توجيه المشاهدين وكأنهم قطيع غنم يثار بمجرد لمس مشاعره الدينية؟

فوطننا العربي به من البلايا ما يكفيه وهو بحاجة لمن يساعده للخروج من هذه الطفولية الدينية التي تشمل وتغطي وتبتلع كل طاقاته وتجعل منه أخر شعوب الأرض تقدما وأكثره تخلفا وتعصبا وتذمرا وصراخا... وكل هذا بسبب الذين ينهجون نهج "الجزيرة" ويلعبون بالدين لأنه أسهل الطرق وأكثر الأوراق لتحريك أكبر الأعداد، وخاصة في وطن كثيرا ما يكون فيه الدين: "أفيون الشعوب"....

قناة الجزيرة وزيارة قداسة البابا

بمناسبة وبغير مناسبة في كل مرة يذكر فيها اسم قداسة البابا نجد قناة الجزيرة تقول: "لأنه أساء إلى الإسلام في تصريحات سابقة ورفض الاعتذار عنها". وهنا أتحدى أن توجد مقال أو خبر واحد على موقع الجزيرة، سواء كان الأمر له علاقة أو ليس لها أدنى علاقة، إلا وقامت قناة الجزيرة بالتذكير بهذه الحادثة، وكأنها تريد دائما أن تجدد الجراح وان تذكر العالم العربي الإسلامي، الغرق في الفقر والمعاناة، بأن هذا البابا الألماني قد تهجم على الدين الإسلامي، وبالتالي لا يحق لأحد أن ينسى أو أن يسامح... وهنا أريد أن أوضح شيئين:

الأول: أن تصريحات البابا لم يكن بها أي إهانة لأي دين ففي محاضرته العلمية  والتي استشهد فيها بقول الإمبراطور قد عبر قداسته، في نفس المحاضرة وفيما بعد، أن كلمات الإمبراطور هي كلمات لا يمكن قبولها...

وكان هدف المحاضر: أنه لا يمكن الجمع بين الله والعنف، فالعنف يتضاد مع طبيعة الله... وكان رد الفعل الإسلامي ردا عنيفا بدون مبرر. ألا يدعو الأمر للتفكير؟؟ ففي الوقت الذي أردت فيه العامة، وبالطبع قناة الجزيرة المحترمة، تأكيد أن الإسلام ليس دين عنف، ماذا فعلوا؟ مظاهرات عنيفة، وحرق كنائس وأعلام؟ وقتل أبرياء، وراهبات كرسوا حياتهم لخدمة الفقراء والمحتاجين؟ وتنديد وشتم ... أوليس ذلك تأكيد للعنف بعنف غير مسبوق؟؟؟ وشخصيا أظن أن الإهانة الحقيقية للدين الإسلامي كانت رد الفعل الإسلامية وليست كلمات البابا!

والثاني: لقد عبر قداسة البابا في مناسبات عديدة عن أسفه وحزنه الشديد لرد الفعل الإسلامي، ولأن كلماته، التي أخذت بعيدا عن سياقها العلمي، قد تسببت في جرح مشاعر المسلمين، وأكد احترامه للمسلمين، ولثقافتهم ولمشاعرهم الدينية. وقد استدعى قداسة البابا كل الدبلوماسيين العرب المعتمدين لدي الكرسي الرسولي وأوضح لهم الموقف الرسمي للكنيسة الكاثوليكية من العالم الإسلامي، واحترام البابا للمسلمين ولمعتقداتهم (12).

 كما تحاول تلك القناة باستمرار إدعاء تعاطف البابا مع إسرائيل وتجاهله للمسلمين، وهنا نوضح الأتي:

علاقة الكنيسة باليهود وبأسرائيل:

إن الكنيسة الكاثوليكية أوضحت دائما أن هناك فرق بين الشعب اليهودي ودولة اسرائيل، فالفاتيكان كان من أخر الدول التي اعترفت بإسرائيل في حين أن بعض الدول العربية قام بذلك مبكرا جدا!!...

فقداسة البابا عندما يتكلم عن الشعب اليهودي فهو يتكلم عن شعب العهد القديم، (شعب التوراة)، وهو جزء لا يمكن فصله عن "الإيمان المسيحي" وليس عن دولة إسرائيل أو الصهيونية، وهنا أدعو لقراءة مقال عن "تبرئة اليهود من دم المسيح" (13).

فكفانا لخبطة بين شعب العهد القديم، (شعب التوراة)، وبين دولة اسرائيل، أو على الأقل كفانا اتهام الآخرين بالتخبط، لأن هذا لا يعبر إلا عن جهلنا بما يقوله الآخرون!!

 قناة الجزيرة وزيارة البابا

ماذا تريد قناة الجزيرة من قداسة البابا؟ أتريد أن ينطق بالشهادتين؟ وأن يؤم الأمة الإسلامية في الصلاة؟... فهل هذا ممكناً أو حتى منطقياً؟؟؟  وهل يمكننا أن نتخيل أن شيخ الأزهر مثلا (مع الاختلاف الجوهري في المنصب والمكانه) أن يؤمن بأن السيد المسيح هو ابن الله وأنه صلب ومات وقام من بين الأموات، فهل هذا ممكنا، وهل هذا منطقيا؟

فلكلٍ عقائده الثابتة والتي لا يمكن له أن يغيرها لأن قناة ما تصرخ ليلا ونهارا أو لأن آلاف المتظاهرين الغاضبين يصرخون ويحرقون الأعلام ويقتلون الأبرياء؟؟ فالثوابت الدينية لا تتغير أمام جهل المتظاهرين وصراخهم. وقداسة البابا لا يمكن له إلا أن يقدم الاحترام لدين الإسلامي وللثقافة الإسلامية وللأشخاص المسلمين، وهذا ما قد فعله وما يفعله في كل مناسبة، ومطالبته بأكثر من ذلك ليست إلا دربا من الخيال وعدم النضوج؟

 

زيارة غزة:

تعترض قناة الجزيرة، وأغلب القنوات العربية الأخرى، على أن البابا لم يضع قطاع غزة في برنامج زيارته للأراضي المقدسة: وهنا نتساءل: من هو الحاكم العربي الذي زار قطاع غزة؟ ولماذا تطالبون قداسة البابا بما لم يقم به أي حاكم من حكام الدول الإسلامية ومن المعروف أن سكان غزة من المسلمين، وأن الكاثوليك هناك لا يتعدون 200 مؤمن؟  أوليس ورقة غزة ليست إلا تأكيد على سياسة التهيج وإثارة مشاعر الكراهية ضد قداسته بدون داعي ولا مبرر؟

ودعون نتساءل أيضا: هل كان البابا حقا يستطيع زيارة غزة؟ من كان سيقوم بحمايته؟ حماس أم فتح؟ أم الجيش الإسرائيلي؟ لاسيما وأن كثير من المواقع الإسلامية المتطرفة هدد باغتياله... يقول المثل العربي: "إن أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع" ولكننا نطالب دائما الآخرين حتى بما لا نستطيع نحن القيام به؟ وعجبي!!