بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الخميس 7 مايو 2009 (Zenit.org). – “هناك حقيقة… هناك حقيقة واحدة؛… البحث عن الحقيقة ليس إشباعًا للفضول؛… التوصل إليها لا يماثل البتة قشعريرة الاكتشاف؛… العقل هو تحت الحقيقة، لا فوقها، ويجب عليه لا أن يتسلط على الحقيقة، بل أن يكرمها” (جون هنري نيومان، نمو العقيدة المسيحية، الفصل الثامن، عدد 1).
إن “الحقيقة” كلمة مستعملة في أطر مختلفة ومتنوعة، وقد سبق واستعرضنا في مقالة سابقة المفهوم المسيحي للحقيقة، ولكننا سنحاول اليوم، مستعينين بما سبق وعرضناه أن نوسع هذا المفهوم باعتباره أساسيًا لإدراك دور العقل في فعل الإيمان. فسؤال بيلاطس: “ما هو الحق؟”، إذا ما طرحه المرء بنية صادقة وصافية تريد أن تدرك مكنون الواقع، هو سؤال مشروع، لا بل ضروري ومطلوب. ولذا نتساءل نحن أيضًا: ما هي الحقيقة، ما هي حقيقة الإيمان؟ بمعنى آخر: ما هي الحقيقة التي يتوجب على المسيحي أن يؤمن بها وأن يقبلها ليكون مسيحيًا، ليدخل في المعرفة الخلاصية؟
يميز الفيلسوف اللبناني رينيه حبشي بين نوعين أساسيين من الحقيقة: “الحقيقة-الإسمنتية” و “الحقيقة-الدعوة”.
“الحقيقة الإسمنتية” هي حقيقة الـ 2 + 2 = 4. إنها حقيقة تشبه النور الساطع الذي يبهر العيون بوضوحه فلا يستطيع المرء أن ينكرها. إنها حقيقة إسمنتية، “مصبوبة صبًا”، لا يمكنني أن أرفضها ولكن في الوقت عينه لا يمكنني أن أدخل في علاقة شخصية معها؛ إنها حقيقة لا يجتاحها الصدأ، هي كاملة وثابته، ولكنها مقفلة لا يمكن الدخول في علاقة وجدانية معها. ما من أحد يضحي بحياته لأجل حقيقة حسابية من هذا النوع.
أما “الحقيقة الدعوة” فهي حقيقة شخصانية، إنها حقيقة تهبني الحياة، وتجعلني مستعدًا أن أهب حياتي بدوري. يمكننا أن نقدم مثالاً عن هذه الحقيقة أمرًا قد يجعلنا نظن أن المسيحيون لا يجيدون علم الحساب 1 + 1 + 1 = 1! أشير بتبسيط حسابي إلى ما يقوله المسيحيون في الثالوث الأقدس: ثلاثة أقانيم (آب وابن وروح قدس)، طبيعة إلهية واحدة. هذه الحقيقة لا تفرض نفسها بشكل حسابي حتمي وجبري، ومع ذلك، فإن هذه الحقيقة كانت وما تزال واقع حبٍ يفهمه مِن بَعيد من يفتح قلبه للحب الذي يوحد ويحفظ التمايز، وهذا الفهم يحمل البعض على الهيام حبًا وصولاً إلى قبول الاستشهاد لأجل الإيمان بإله الحب.
التمييز بين الحقيقة المسيحية والحقيقة الفلسفية
في العهد القديم ترتبط “الحقيقة” “إمت” بأصل “أمن” الذي يعني: “الثابت، الوطيد، الثبات…”؛ وعليه فإن “إمت” تعني الثبات الجوهري، أي ما يمنح الأمان ويستحق الثقة. بهذا المعنى يمكننا أن نقول أن الله “حق” بالتمام، أي أنه يستحق الثقة بالتمام، وأن وعوده صادقة. وبالتالي يتضمن المفهوم العبري للحقيقة بعدًا وعنصرًا أدبيًا. تشير الحقيقة في الأدب الرؤيوي إلى بساطة القلب وإلى استقامة العيش الخلقي، وتضحي إلى حد ما مرادفًا للحكمة (Cf. I. De La Potterie, “Vérité”, in X. Léon-Durour, Vocabulaire de théologie biblique, Paris 1970, 1329 ; Cf. R.E. Brown, Giovanni. Commento al vangelo spirituale, Assisi 19995, 1440).
ترتبط الحقيقة أيضًا بـ “السر”، أي بمشروع الله الخلاصي، بحيث تضحي معرفة الحقيقة معرفة لمشاريع الله (راجع حك 6، 22).
إن هذا المفهوم للحقيقة في العهد القديم، والذي يقترب من مفهوم العهد الجديد كما سنرى في مرحلة لاحقة، يختلف عن المفهوم اليوناني للحقيقة.
في اليونانية “أليثيا” (altetheia) كلمة تعني بالأساس عدم التخفي، الكشف. وبالتالي إنطلاقًا من المفهوم الأثيمولوجي اليوناني، الحقيقة هي أمر يجب اكتشافه، أمر يجب أن يبحث المرء عنه وأن يقوم بالارتقاء نحوه. الحقيقة هي واقع وحالة يدركها المرء لدى معاينته لها؛ فاليوناني بعكس العبراني هو مشكك بطبيعته، ولم يكن ليقبل بما لا يرى، ومن هذا المنطلق “حقيقة” و “واقع” هما أمران مترابطان (Cf. T. Špidlík, L’idea russa. Un’altra visione dell’uomo, Roma 1995, 73.
).
وعليه فالمفهوم اليوناني، خلافًا للمفهوم العبري هو فكري لا أخلاقي. وقد سيطرت على الفكر اليوناني مسألة البحث على الحقيقة بدءًا بالفلاسفة الطبيعيين وصولاً إلى التصوف الهيليني. يجتاح الإنسان اليوناني توقف جامح إلى التوصل إلى الحقيقة. وانطلاقًا من الثنائية الأفلاطونية، تم اعتبار التوصل إلى الحقيقة أمرًا مستحيلاً ما لم ترتق النفس نحو عالم الأفكار، مرتع الحقيقة، لأن العالم العقلي وحده هو العالم الحقيقي (cf. Platone, Fedro, 248 b). في هذا المنظور تتبع مسيرة الحقيقة طريقًا تصاعديًا: هي ارتقاء الإنسان نحو عالم الآلهة؛ الحقيقة ليست موجودة في العالم، لأن العالم ليس إلا صورة وخيال (Repubblica, VII, 514 a – 518 b).