الحقيقة المسيحية: حوار يبدأه الله

في سبيل عقلانية منفتحة (4)

Share this Entry

بقلم روبير شعيب

روما، الثلاثاء 12 مايو 2009 (Zenit.org). – نقرأ في قصيدة شهيرة للمتصوف المسلم أبو المغيث الحسين بن منصور، المعروف باسم “الحلاج”:

لبيك لبيـك يـا سـري ونجوائـي

لبيك لبيـك يـا قصـدي ومعنائـي

أدعوك بل أنت تدعوني إليك فهـل

ناديـت إيـاك أم ناديـت إيـائـي

تعبر هذه الكلمات بشكل واضح عن موقف المرء نحو الحقيقة في أديان الوحي الأبراهيمية: ليس الإنسان البادئ في الحوار مع الله، بل هو الله الذي ينادي ويجذب ويفتن.

هذا المفهوم للحقيقة التي تأتي صوب الإنسان يجد التعبير الأسمى في المسيحية حيث يأتي الله لا بكلمة لفظية أو فكرية وحسب، بل بكلمة “شخصانية” متجسدة، في يسوع المسيح الآخذ صورة الإنسان.

وهذا الإطار يختلف كليًا عن موقف التصوف الهيليني، ويختلف كليًا عن مفهوم الحقيقة الذي نراه في العصر الحديث.

الموقف المسيحي نحو حقيقة الله ليس في المقام الأول توقًا للوصول إلى الحق، بل هو موقف قبول لـ “معرفة الحق” (يو 8، 32؛ 2 يو 1) وللـ “إقامة” في الحق بالإيمان. الله هو القائم بالخطوة الأولى نحو الإنسان، هو “من أحبنا أولاً” (1 يو 4، 19). والمسيحي يتوق لكي “يكون في الحق” (يو 18، 37؛ 1 يو 3، 19) الحقيقة التي تأتي إلى الإنسان وتنصب خيمتها بين البشر (راجع يو 1، 14). ليست الحقيقة واقعًا بعيدًا يترتب على النفس أن تتوق إليها بجهد جهيد، وليست موضعًا ينبغي على الروح أن يتعمق بسبره عبر إعمال العقل؛ “الحقيقة هي جوهريًا كشف يجب على الإنسان أن يقبله بالإيمان؛ وبهذا الشكل تضحي هذه الحقيقة قاعدة حياة، قيمة أخلاقية، ينبغي عليها أن تنير وتحول كل وجوده” (I. De La Potterie, La vérité dans saint Jean, op. cit., 26).

فقط بعد قبول هذه الهبة الأولية والمجانية، يترتب على الإنسان أن “يعمل الحق” (يو 3، 21؛ 1 يو 1، 6)، وأن “يسير في الحق” (يو 4، 23 – 24)، وأن “يتكرس بالحق” (راجع يو 17، 17 . 19)، وأن “يحب بالحق” (2 يو 1؛ 3 يو 1) وأن يكون “شريكًا في عمل الحق” (3 يو 8).

إذا ما أردنا أن نستعمل تعابير العصر الوسيط، يمكننا أن نقول أن “التوق الطبيعي إلى رؤية الله” (desiderium naturale videndi Deum)، الذي يعتبر فلاسفة ولاهوتيو العصر الوسيط أنه التوق الأعمق والأثبت في الإنسان، يبقى بحد ذاته “توقًا عقيمًا” (desiderium inefficax)، و “نزعة عمياء في النفس” ما لم يكشف الله عن ذاته ويهب ذاته للإنسان في الإيمان؛ التوق بحد ذاته، قبل مبادرة الله ليس توقًا كاملاً أو نزعة كاملة (appetitus perfectus) بل مجرد “ميل سلبي أو انفعالي” (aptitudo passiva)، والتواصل الحق بين رغبات الإنسان وتحقيقها يتم فقط عندما يهب الله نعمة الإجابة على دعوة الله (cf. H. De Lubac, “Surnaturel. Études historiques”, “Le mystère du surnaturel”. Cf. H.U. Von Balthasar, Il padre Henri de Lubac.  La tradizione fonte di rinnovamento, Milano1978, 75-79).

إذا جاز التعبير، يمكننا أن نقول أن الموقف المسيحي تجاه الحقيقة يجب أن يكون موقفًا أنثويًا، بمعنى التخلي عن رغبة السيطرة المتمثل بتملك الحق، وتفضيل موقف الطواعية والقبول الذي يسمح للحق أن يزور الإنسان وأن ينفذ إلى باطنه وأن يعانقه، بحيث يضحي رحمًا يستطيع الحق أن ينصب خيمته فيه. يتحدث الأب تيار دو شاردن عن موقف “إنفعالية النمو” (passivité de croissance) (راجع: P.T. De Chardin, Le milieu divin. Essai de vie intérieure, Paris 1957, 61-91).

إن قبول الإيمان هو موقف بتولي ومريمي، يمكننا أن نطبق عليه كلمات القديس غريغوريوس النيصصي القائل: “ما تم في مريم بحسب الجسد، يجب أن يتم في كل مسيحي بشكل روحي (بحسب اللوغوس – kata logon)” (راجع: Gregorio di Nissa, De virginitate 2; PG 46, 324b).

يجب علينا أن نفهم الحقيقة-الدعوة المسيحية كـ “حدث“، كواقع تحتل فيه أهمية خاصة الـ “جشتالت” (البنية أو الصورة – Gestalt) (راجع: H.U. Von Balthasar, La Gloire et la croix. Les aspects esthétiques de la Révélation, I, Apparition, Alençon 1990). الحقيقة-الدعوة هي ركيزة الأمور الأخيرة، وهي تهب نفسها في جشتالت يسوع، في مجد الحب المصلوب، في جدلية الكشف والإخفاء المتضمن في الوحي – فالوحي (Revelatio)  هو في الوقت عينه كشف (revelatio) وإعادة ستر (re-velatio). وفي اعتلان بنية الحب المرئي يرى الإنسان الله اللامرئي. ولكن في هذه الحالة لا يكون الإنسان سيد الحقيقة بل متقبلاً متواضعًا لها، لا يشكل هو وجه الحقيقة، بل تعطيه الحقيقة شكله وبنيته وصورته الحقة، ويستطيع أن يقول: “أنا محبوب إذًا أنا موجود”، أو بشكل أبسط: “أنت موجود إذُا أنا موجود” (Tu ergo sum).

معرفة (connaissance) الحقيقة-الدعوة هي خبرة اعتراف (re-connaissance)، خبرة انخطاف، خبرة خروج من الذات (ex-tasis). أمام “حب الله المجنون” (eros manikon) الذي يتحدث عنه الآباء اليونان، الإنسان مدعو لكي يشهد لهبة الذات الدائمة التي يقوم بها الحق من خلال اعتراف وانخطاف وانجذاب في حضرة الحب الفائض المتجلي في هبة المسيح لذاته “ونحن بعد خطأة”.

يقدم الفيلسوف الفينومينولوجي الفرنسي جان لوك ماريون إسهامًا هامًا في هذا الإطار عندما يبين أن خبرة الإنسان للواقع هي خبرة تتميز دومًا بالتواصل مع ما يتصف دومًا بطابع المجانية والهبة. ويعتبر ماريون أن وجود الشخص البشري غير ممكن دون هذه الهبة الأولية. ويعتبر ماريون أن هناك واقع جوهري في علاقة الإنسان بالحقيقة لا يستطيع أحد أن يتجاوزه: هناك شيء ما يُعطى لأحد ما. فالإنسان لا يظهر في المقام الأول كفاعل في فعل المعرفة، بل أكثر من ذلك بكثير، كغ
اية ومستقبل لهبة مجانية. ويبتكر ماريون تعريفًا جديدًا للإنسان “المعطى-إليه” (l’à-donné) (Cf. J.L. Marion, Dato che.  Saggio per una fenomenologia della donazione, Torino 2001).

أن يعي الإنسان ذاته يعني أن يعي أن هناك علاقة تكونه، وأن يعترف بهذه الهبة من خلال الاعتراف بذاته: أنا موجود بمقدار ما أنا معطى-إلى-ذاتي. إذا ما أعدنا النظر بالأنثروبولوجيا التي تقدمها لنا الفلسفة الحديثة نجدنا أمام أنثروبولوجيا مختلفة بالتمام: لسنا بصدد “أنا أفكر إذًا أن موجود” بل بصدد “هناك من يفكر بي، إذًا أنا موجود“. ركيزة وجودي ليس وجودي أنا بل ذاك الذي يدعوني إلى الوجود، الله، ركيزة كل وجود الذي دعاني فكنت، ويدعوني فأكون.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير