بقلم روبير شعيب
روما، الخميس 14 مايو 2009 (Zenit.org). – يسوع هو الحق وفي الوقت عينه هو "حامل" حقيقة يعيشها في حميمية علاقته بالآب، حقيقة حب الله، وانفتاح الحب نحو المشاركة مع البشر. لا يجب "التفتيش" عن هذه الحقيقة بل يجب الإصغاء لها وقبولها والطاعة لها. "ما يريد الله قوله للإنسان من خلال المسيح لا يمكن وضعه في أطر محددة، لا في العالم بوجه عام، ولا في الإنسان بوجه خاص: فهو واقع لاهوتي، وتحديدًا هو لاهوتي-براغماتيكي" (H.U. Von Balthasar, Solo l’amore è credibile, Roma 2002, 7). إن الحقيقة التي هي شخص يسوع، والتي يفعلها يسوع والتي يحملها يسوع، تشكل انقطاعًا سرديًا في تاريخ الإنسان والكون، ولذا لا يستطيع الإنسان بأي شكل كان أن يستنتجها من الكون ولا أن يختزلها بجريان التاريخ. ما يجب عليه فعله هو أن يسمح لهذه الحقيقة أن تقوده إلى حدث "الله معنا" وإلى اللقاء مع هذه "الحقيقة-الحدث-الحب".
تظهر هنا جليًا أهمية المقاربة في فكر القديس يوحنا بين "الحقيقة" (aletheia) و "الإصغاء" (akouein). فيسوع يقول الحقيقة التي "سمعها" من الله: "إن الذي أرسلني هو حق، وما سمعته منه، أنا أقوله للعالم" (يو 8، 26؛ 15، 15)؛ "أنا أقول جميع ما علمني إياه الآب" (يو 8، 28)؛ ويقول يسوع الأمر نفسه بصدد روح الحق الذي "يتكلم من ذاته، بل يقول ما قد سمع" (يو 16، 13). والإنسان "الذي هو من الله، يسمع كلمات الله" (يو 8، 47).
لا يتحدث يوحنا البتة، بشكل ظاهر، عن وجوب إصغاء التلاميذ للحق، ولكن المقاربة بين مفهوم الحقيقة ومفهوم الكلمة يجعلنا ندرك أنه فقط من خلال الإصغاء النبيه لكلام المسيح يستطيع التلاميذ أن يؤمنوا: يجب عليهم أن يصغوا لكلمات يسوع (يو 5، 24؛ 8، 43)؛ وهذه الكلمات التي يصغون إليها، هي كلمات الآب الذي أرسل يسوع (يو 14، 24). من ناحية أخرى يقول يسوع: "من سمع لتعليم الآب وتعلم الحق، يأتي إليّ" (يو 6، 45).
وعليه فإن الوصول إلى الحق في فكر الإنجيلي يوحنا يتم بشكل خاص من خلال الإصغاء، وذلك بالرغم من الأهمية الخاصة التي يوليها الإنجيلي لفعل "النظر" وفعل "التطلع"، إلا أننا لا نجد أبدًا الربط بين الحق وهذه الأفعال: " blepein "، " theorein "، " theasthai "، " oran ". وهنا بالضبط نجد الفرق الشاسع بين الإيمان العبراني والمسيحي، وبين الفلسفة والتصوف الهيلينيين: فملء الخبرة الفلسفية اليونانية هو الثيوريا (theoria)، أي تأمل الحقائق الخفية؛ إلا أننا نجد أيضًا فرقًا شاسعًا بين الفكر الكتابي والفكر الحديث، فكر التمحص والتبحر المخبري، والفكر ما بعد الحديث، وبشكل خاص مفهوم الحقيقة بالنسبة لوسائل الإعلام المرئي والمسموع، حيث يتم التركيز بشكل خاص على النظر الظاهري، في إطار يمكننا تسميته "ديكتاتورية النسبوية التوافقية". بينما النظرة البيبلية، وملء الخبرة الدينية في هذه الحياة الأرضية هو الإصغاء (إصغاء الإيمان: auditus fidei) الذي يتحدث عنه بولس في روم 10، 17: الإيمان من السماع (he pistis ex akoes) من سماع التبشير بالمسيح.
وهذا الاستشهاد البولسي ليس الوحيد في هذا الإطار، فبولس يوضح أن رؤية الإيمان في هذه الحياة هي "كما في مرآة" (1 كور 13، 12)، فنحن "نسير بالإيمان، لا بالعيان" (2 كور 5، 7)، ومسيرتنا نحو رؤية أكمل، نحو معرفة أكمل نحو ما يعرف بـ "الرئية الطوباوية" في السماوات (visio beata). على المسيحيين، إذا ما أرادوا الولوج في حميمية الحقيقة الإلهية أن يصغوا "لكلام الحق، إنجيل خلاصهم" (أف 1، 13؛ راجع أيضًا كول 1، 5). ويستنكر الرسول موقف من "يرفض الإصغاء للحق ويميل سمعه للخرافات" (2 تيم 4، 4).
هذا وتتحدث رسالة بطرس الأولى عن "الطاعة للحق": "من خلال طاعتكم للحق (en te hupakoe tes aletheias) قدسوا نفوسكم" (1 بط 1، 22)، دون أن ننسى أن يسوع نفسه، في ظهوره لتوما يعلن: "طوبى للذين لم يروني وآمنوا" (راجع يو 20، 29).
نرى إذًا أن الحقيقة المسيحية تدعو الإنسان الحديث والمعاصر إلى إعادة النظر في شروط قبوله للإيمان. فإذا ما بقي متشبثًا بأطر الفحوصات المخبرية والبراهين المرئية والبحتة ضيع إمكانية إدراك حقيقة تتوجه لا إلى العقل المخبري وحده بل إلى كيان الإنسان بأسره، حقيقة لا عقلية بل أكثر من ذلك، حقيقة شخصية، شخصانية، وجودية وخلاصية.