هنا لا يمكننا الاقتراب من الغنى اللاهوتي الذي تتضمنه هاتان الروايتان واني ساقتصر على رواية تكثير الخبز التي تحدث عنها يوحنا، صحيح انها لن تكون موضوع فحص معمق، لاننا سنلتفت بنظرنا فورا الى تفسير هذا الحدث الذي اقترحه يسوع، في اليوم التالي، في خطابه الكبير عن الخبز، في المجمع على الضفة الثانية من البحيرة وهنا ايضا علينا ان نضع نقتصر على ما نحن فيه. ان هذا الخطاب الكبير الذي طالما تأمله ومحصه الشراح، لا يمكننا ان نفحصه بالتفصيل. غير اني اود فقط ان احاول ان استخرج خطوطه الكبرى، وخاصة ان اضعه في مجموعة التقليد الى دخل فيها والتي انطلاقا منها يجب فهمه.
ان الاطار المحدد الذي يدخل فيه كل الفصل انما هو تشبيه يسوع وموسى. ان يسوع هو موسى النهائي، موسى الاكبر، "النبي" الذي انبأ عنه موسى في خطابه على عتبة الارض المقدسة، والذي قال فيه الله: "والقي كلامي في فيه فيخاطبهم بجميع ما آمره به". وليس صدفة، اذا كنا بعد نهاية تكثير الخبز، وقبل محاولة اعلان يسوع ملكا، نجد هذا القول:"انه هو حقا النبي الكبير، الاتي الى العالم، وكذلك ان الناس يقولون بعد الاعلان عن الماء الحي في عيد الخيم: "انه هو النبي الكبير"، وعلى سريره موسى، يرتسم الطلب الذي كان على يسوع ان يظهره في الصحراء، فجر موسى الماء، من الصخرة، ووعد يسوع بالماء الحي، على ما رأينا. ان العطية الكبرى التي كانت حاضرة في النفوس، كانت المن، كان اعطى موسى خبز السماء، وكان غذى الله اسرائيل في سيره بخبز السماء. وبالنسبة الى شعب كان قسم كبير منه يشكو الجوع والتعب من العمل اليومي كان ذلك وعد المواعيد الذي كان يوازن نوعا ما كل الامال: نهاية كل شقاء، وعطية تسد جوع الجميع والى الابد.
قبل ان نعود الى هذا المفهوم الذي يتيح لنا ان نفهم الفصل السادس من انجيل يوحنا، علينا ان نتم صورة موسى، لان هذه هي الطريقة الوحيدة التي تظهر ايضا صورة يسوع التي كان يوحنا يحملها في ذهنه، ان النقطة المركزية لتفكيرنا التي انطلقنا منها من اجل هذا الكتاب والتي نعود اليها دونما انقطاع تقوم على القول ان موسى تكلم وجها لوجه مع الله عينه كما يكلم المرء صاحبه. ولانه فقط تكلم مع الله عينه، استطاع ان يحمل الى الناس كلمة الله ولكن حضور الله هذا المباشر الذي يشكل قلب رسالة موسى وسببها العميق قد داخله بعض الظلام. ذاك انه حين ذكرت صداقته وعلاقته المباشرة مع الله، ان طلب موسى الذي قال:" دعني ارى مجدك" جاءه مباشرة الجواب التالي عندما يمر مجدي، اضعك في نقرة الصخرة واظللك بيدي حتى اجتاز ثم ازيل يدي فتنظر قفاي، واما وجهي فلا يرى". ان موسى عينه لم ير الا قفا الله، لان وجهه" لا يستطيع احد ان يراه"، وحد الموضوع لموسى واضح.
ان المفتاح الحاسم لصورة يسوع التي نقلها انجيل يوحنا نجده في اخر مقدمة هذا الانجيل:"ان الله لم يره احد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الاب هو اخبر".ان من هو الله وحده يرى الله اي يسوع وهو يتكلم حقا انطلاقا من رؤيا الاب ويتكلم انطلاقا من الحوار الدائم مع الاب، وهو حوار تقوم به حياته واذا كان موسى لم يظهر، ولم يستطع ان يظهر لنا الا ظهر الله، فان يسوع خلافا لذلك، انما هو الكلمة الاتي من الله انطلاقا من تأمله الحي، واتحاده به وهنا يدخل في الموضوع عطاءان اخران لموسى يجدان تمامهما في المسيح، لقد اعطى الله اسمه لموسى فاوجد هكذا امكانية العلاقة بينه وبين الناس، ولدى نقله هذا الاسم الذي اوحى اليه اصبح موسى وسيط العلاقة الصحيحة التي يقيمها الناس مع الله الحي. لقد سبق لنا ان تأملنا في هذه النقطة، عندما تفحصنا المطلب الاول من الابانا، وان يسوع في صلاته الكهنوتية شدد على انه يكشف اسم الله وهو يكمل في هذا المجال العمل الذي بدأه موسى، ولدى تفحصنا الصلاة الكهنوتية علينا ان ننظر عن كثب الى هذا العنوان، الى اي مدى ذهب يسوع ابعد من موسى بكشفه عن اسم الله؟
ان عطية موسى الاخرى التي اصبح بها اسرائيل من هو، اي شعب الله، هي مرتبطة اوثق الارتباط برؤية الله، ويكشف اسمه، وبالمن. ان التوراة التي هي كلمة الله التي ترشد الى الطريق، وتقود الى الحياة، لقد وعى اسرائيل بوضوح متزايد هذا الواقع وهو ان هذا الامر هو عطية موسى الاساسية والمستمرة وان علامة اسرائيل الفارقة، تقوم على معرفة ارادة الله، وفي الوقت عينه، طرق الحياة القوية. والمزمور الكبير 119 (118) يعبر عن الفرح وعرفان الجميل لهذه العطية. وان مفهوم الشريعة المختزل الذي هو حصيلة تفسير اختذالي للاهوت مار بولس يمنعنا من رؤية فرح اسرائيل هذا وفرح معرفة ارادة الله، والقدرة هكذا على عيش هذه الارادة وواجب عيشها.
هذا الشرح يعيدنا ثانية الى الخطاب عن خبز الحياة ولو بدأ ذلك غير منتظر. ذلك ان الفكر اليهودي في تطوره الداخلي وصل شيئا فشيئا الى هذا الاستنتاج، وهو ان خبز السماء الحقيقي الذي غذى ويغذي اسرائيل، انما هو الشريعة اي كلام الله، وفي الادب الحكمي، الحكمة القريبة المنال والحاضرة في الشريعة تبدو كالخبز. ان الادب الحاخامي توسع لاحقا في شرح هذه الفكرة وعلينا ان نقرأ في هذا المنظور المعارضة بين يسوع واليهود المجتمعين في هيكل كفرناحوم وقد حملهم يسوع اولا على الملاحظة انهم لم يروا في الكثير الخبز "علامة" وهذا ما كان. وان كل ما يهمهم كان ان ياكلوا ويشبعوا وكانوا يرون الخلاص كانه شيء مادي محض، اي الرفاه بوجه عام، فيقلل هكذا من شأن الانسان ويتناسى الله. واذا رأوا في المن شيئا يغذيهم فقط بات لزاما علينا ان
نتحقق من ان المن لم يكن خبزا سماويا بل خبزا ارضيا. وهو عبثا يأتي من السماء، فلم يكن سوى غذاء ارضي، وكان عليه ان ينتهي عندما يتركون الصحراء الى مناطق آهلة.
لكن لدى الانسان جوع اكبر، انه في حاجة الى اكثر من ذلك. ان العطية التي تغذي الانسان بوصفه انسانا يجب ان تكون اكبر من ذلك، يجب ان ترتفع الى مقام اخر. وهل التوراة هي غذاء اخر؟ ان الانسان بها وفيها يستطيع بطريقة او باخرى، يتصرف بحيث تصبح ارادة الله هي غذاءه. اجل ان التوراة هي الخبز الاتي من الله ولكنها تظهر لنا فقط ظهر الله، انها ظل. ان خبز الله هو ذاك الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة، وعندما لا يفهم السامعون يعيد يسوع بوضوح اكبر: "أنا هو خبز الحياة. من يأتي الي فلن يجوع، ومن يؤمن بي فلن يعطش ابدا.
ان الشريعة اصبحت شخصا. لدى ملاقاتنا يسوع، اننا نغتذى، اذا صح القول، من الله الحي عينه، فتأمل حقا "الخبز الاتي من السماء". وبالتالي كان يسوع قداوضح فورا ان العمل الوحيد الذي يطلبه الله انما هو يقوم على الايمان به وكان المستمعون طلبوا الى يسوع: ماذا علينا ان نصنع لنعمل اعمال الله؟ ان الكلمة اليونانية ارغازيستاي التي نجدها هنا تعني "الربح في العمل"، السامعون هم مستعدون للعمل، والشغل واتمام الاعمال بالعمل الانساني، وبالجهود الخاصة ولا يمكن ان يأتي الينا كعمل الله. في هذا الحوار نجد كل اللاهوت البولسي. ان الخير السامي والحقيقي، لا يمكننا ان نكتسبه بجهودنا. علينا ان نقبل العطاء، وان ندخل في حركة ما نعطاه. وهذا يكون بالايمان بيسوع الذي هو حوار وعلاقة حية مع الآب، ويريد ان يصبح فينا كلمة ومحبة.
ان السيد المسيح هو الخبز الحقيقي النازل من السماء بالنسبة الى المؤمنين به وبتعاليمه. ولا يستطيع ان يتناول هذا الخبز الا من كان يؤمن بانه ابن الله الاتي الى العالم، ويعمل بارادته وارادة الله هي ان تقوم على تطبيق تعاليمه على حياتنا الخاصة.
في الاسبوع المقبل سيدعى اللبنانيون الى الادلاء باصواتهم لانتخاب نواب جدد يمثلونهم تحت قبة الندوة اللبنانية لمدة اربع سنوات. وعليهم لحسن الايداء الانتخابي، الا يتأثروا الا بضميرهم وخير الوطن، وبالتالي يخيرهم العام، وخير مستقبلهم ومستقبل اولادهم، والا يبالوا بتهويل او ترغيب فلا يضعوا نصب عيونهم الا مستقبلهم في وطنهم ولا يصغوا الا لداعي الضمير المستقيم دونما نظر الى ما يقوله هؤلاء واؤلئك من داخل لبنان وخارجه من كلام معسول ووعود خلابة.
وقد سبق للكنيسة ان وضعت "شرعة العمل السياسي"، ودعت الى تحييد لبنان عن الصراعات الاقليمية والنأي به عن التجاذبات الدولية، فعسى الا يصغي اللبنانيون الا الى ضميرهم اليقظ، وخير وطنهم العام والله ولي التوفيق.