بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الجمعة 4 سبتمبر 2009 (Zenit.org). – فويرباخ كان، كما يشير اسمه “نهرًا من النار” اجتاحت نيراته – بحسب شهادات تاريخية – الكثير من النفوس. ولكن تلميذه الأهم على الإطلاق هو كارل ماركس. لم يعالج فويرباخ مواضيع اقتصادية، ومع ذلك، يمكننا بعدل أن نعتبره “الأب الروحي” للاشتراكية الماركسية (H. De Lubac, op. cit., 33). يكفينا أن نعرف أن ماركس يعتبر فويرباخ “لوثرًا آخر في تاريخ التحرر البشري”.
ماركس هن إذًا الابن الروحي لفويرباخ، ولكن بينما سعى هذا الأخير إلى اكتشاف ركائز الانسلاب البشري في الدين، سلط ماركس اهتمامه على الانسلاب البشري في المجتمع. واهتم بشكل أقل بالموضوعات الفلسفية العامة، مركزًا على الواقع الاجتماعي. لقد نزع ماركس عن إنسان فويرباخ الهالة التي بدت كتصوف أنسي، لكي يراه في واقعه الاجتماعي والاقتصادي الخام.
بالنسبة لمؤلف “رأس المال”، الإنسان ليس كائنًا مجردًا، منعزلاً عن العالم. “الإنسان هو عالم الإنسان، هو الدولة، والمجتمع… والبؤس الديني يعبر عن البؤس الحقيقي، وعن الثورة ضد هذا البؤس الحقيقي. الدين هو صرخة البائس، وهو شعور عالم يفتقر إلى القلب، وهو أيضًا روح واقع خالٍ من الروحانية. بكلمة الدين هو أفيون الشعب” (K. Marx, Per la critica della filosofia del diritto di Hegel, citato da H. De Lubac, op. cit., 35).
انطلاقًا من هذه النظرة، يقدم ماركس مسودة لتقدم الإنسان في إطار متحرر ليس فقط من الدين، بل أيضًا من البورجوازية للوصول إلى الاشتراكية التي هي كبح لكل أشكال الانسلاب، إلهية كانت أو أرضية. في هذه الاشتراكية، الدين هو دين العمال، وهذا الدين هو “دون الله، لأنه يسعى إلى إعادة ترميم ألوهية الإنسان”. بالنسبة لماركس “نقد الدين هو الشرط الأساسي لأي نقد آخر” (راجع كوستي بندلي، إله الإلحاد المعاصر، بيروت 1968، 3).
بكلمة أخرى، إلحاد ماركس هو إلحاد مبدأي وافتراضي (postulatorio). وهذا النقض التهديمي للدين هو باسم الإنسان ينطلق من مُسَلَّمَة مشتركة عند كل الملحدين محبي البشرية في العصر الحديث: لا بد من تدمير الله إذا ما أردنا بناء الإنسان؛ لا بد من قتل الله إذا ما أردنا قيامة الإنسان. فحيث هناك الله، يستحيل وجود الإنسان ووجود الحرية. يحمل ماركس شعلة الإنسان البروموتوييّ التي أطلقها فويرباخ ويضيف إليها عنصر “الإلحاد المناضل”.
يصرح ماركس أن إلحاده المناضل هو مرحلة عابرة، وأن ديانته التي ستكون اللا-تديّن، ستضحي الديانة الوحيدة للشيوعية، ولن يعود هناك حاجة للنضال ضد الله، لأن عدم الإيمان به سيضحي أمرًا طبيعيًا للغاية، ولذا سيتخطى الإنسان معاداة الألوهة (anti-teismo)، وهو الرفض المناضل لله، ليصل إلى الإلحاد (a-teismo)، وهو رفض مسالم وطبيعي لله. وعليه فإن رفض ماركس لله هو ضروري ونافع لفترة من الزمن، وذلك لتربية وعي ثوري في الطبقة العاملة (Cf. P. Evdokimov, “L’amour fou de Dieu et le mystère de son silence”, in L’amour fou de Dieu, Paris 1973, 16).
ولذا نلاحظ كيف أن ماركس يستعين بلازمة الانسلاب الديني التي يقدمها فويرباخ ليبين كيف أن هذا “الانسلاب” يُستخدم كـ “تعزية” في وسط بؤس العالم الحقيقي، فالدين هو “قلب عالم يفتقر إلى القلب”، وهو “الأفيون” الذي يخدّر الطبقة الكادحة لكي يحول دون ردة فعلها الثورية في وجه الظلم والانسلاب الاجتماعي. من هذا المنطلق، يضحي الدين الحارس لـ “بنية الخطيئة” التي هي استغلال الفقير. وفي هذا الأمر، لا يمكننا إلا أن نعترف بأن ماركس لم يخطئ بالكلية. فكم من الخبرات الدينية تتصور نفسها كخلاص من العالم، بدل أن تكون خلاصًا للعالم. كم من الأشخاص والجماعات تتمسك بالله انطلاقًا من نزعة هرطوقية مانوية تجعل من احتقار العالم والحياة شعارها. وما هذا إلا موقف يناهض منطق الله الذي يخلق ويرى الخليقة جيدة جدًا، ومنطق التجسد، حيث الله يخلص العالم، لا يخلص من العالم.
خطأ ماركس، بالنسبة لنظرتنا المسيحية هو التوسّل الإيديولوجي للنقد السليم، وتعميمه على كل الخبرات الدينية. خطأه الاجتماعي هو الخطأ النفسي الذي ارتكبه فرويد. فكما بنى فرويد نظرياته حول الدين كمرض عصاب انطلاقًا من خبراته مع أشخاص يعانون من العصاب ولا انطلاقًا من الشخصية والنفسية السليمة، كذلك ماركس بنى نقده للدين كعنصر تخدير وانسلاب، لا انطلاقًا من جوهر المسيحية بل انطلاقًا من ممارسة مغلوطة للمسيحية هي بالواقع نقيض هذه المسيحية عينها. فالمسيحية، بحسب الفهم العميق لرسالة يسوع المسيح هي “رسالة تحرير اجتماعي أيضًا” (راجع غوتيريز، ويوهان بابتيست ميتز). يكفينا النظر إلى بعض الأمثلة، مثل استنكار إشعيا أمام المحرقات التي تقدمها أيدٍ “ملطخة بالدماء”، فيقول باسم الرب: “ما فائدتي من كثرة ذبائحكم يقول الرب؟ قد شبعت من محرقات الكباش وشحم المسمنات وأصبح دم اكيران والحملان والتيوس لا يرضيني […] حين تبسطون أيديكم أحجب عيني عنكم وإن أكثرتم من الصلاة لا أستمع لكم لأن أيديكم مملوءة من الدماء. فأغتسلوا وتطهروا وأزيلوا شر أعمالكم من أمام عيني وكفوا عن الإساءة. تعلموا الإحسان والتمسوا الحق قوموا الظالم وأنصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة” (أش 1، 1. 15 – 17).
ويسوع يبدأ حياته العلنية معلنًا “التحرير”: “أتى [يسوع] الناصرة حيث نشأ، ودخل الـمجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ. فدفع إليه سفر النبي أشعيا، ففتح السفر فوجد الـمكان المكتوب فيه: “روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر الفقراء وأرسلني لأعلن للمأسورين تخلية سبيله
م وللعميان عودة البصر إليهم وأفرج عن الـمظلومين وأعلن سنة رضا عند الرب”. ثم طوى السفر فأعاده إلى الخادم وجلس. وكانت عيون أهل الـمجمع كلهم شاخصة إليه. فأخذ يقول لهم: “اليوم تمت هذه الآية بمسمع منكم”” (لو 4، 16 – 21؛ راجع أيضًا أش 61، 1 – 2؛ صف 2، 3) هذا دون أن ننسى نص “الدينونة الأخيرة” التي سترتكز على أعمال الرحمة العملية مثل إطعام الجياع، إلباس العراة،زيارة المساجين… (راجع مت 25). وإذا ما نظرنا إلى رسائل بولس رأينا العناية نفسها بالفقراء واليتامى وبالكنائس الفقيرة. والأمر نفسه نجده في رسالة القديس يعقوب: “التدين الطاهر النقي عند الله الآب هو افتقاد الأيتام والأرامل في شدتهم” (يع 1، 27).
ولذا نرى أن ماركس يعاني من تأثير مفهوم مسبق مناهض للدين، وحكم مسبق عن الخبرة الدينية، إذ رأى أن تدمير الدين، كون هذا الأخير واقعًا خياليًا، هو شرط لا بد منه للتخلي عن الغبطة المزيفة للوصول إلى السعادة الحقة. يقول ماركس في كتابه “العائلة المقدسة”: “تدمير الدين هو التمهيد لتدمير وادي الدموع الذي يسبغ على الدين هالته” (راجع كوستي بندلي، إله الإلحاد المعاصر، 14).
يقدم ماركس المادة كعنصر أول في عقيدة إيمانه. المادة أزلية، ديمانية بالكامل، وهي في تطور مستمر. والنزعة الأخيرة من جدلية المادة هي الكائن البشري. والإنسان العامل، في تطوره التاريخي، هو مدعو لاستخدام المادة الأولى لبناء العالم الاجتماعي المرتكز على الاقتصاد.
يجد الإلحاد الماركسي ركيزته في أعمدة ثلاثة، في أساطير ثلاث (I. Fuček, “Marxismo”, in R. Latourelle-R. Fisichella (edd.), Dizionario di teologia fondamentale, Assisi 1990, 687-688) تبين جوهر التبشير الماركسي، وحجج رجائه. فهو:
– أنسي: له أهدافه الأنثروبولوجية المتمحورة حول الإنسان (antropologiche e antropocentriche). هدفه أن يجعل الإنسان أكثر استقلالية وحرية.
– علمي: لأنه يزعم، باسم العلم، أن ينكر وجود الله واضعًا الأساس لمادية جدلية تطورية تلبس زيًا اصطناعيًا من العلمية. يكتب اللاهوتي الأرثوذكسي بافل أفدوكيموف معلقًا على هذا المزاعم الماركسية: “الماركسية تحل مشكلة الله دون أن تكون أبدًا قد عالجت هذه المشكلة، وتستبدله بقانون إيمانها: ‘أنا أؤمن بالمادة المكتفية بذاتها، اللامتناهية، غير المخلوقة، والتي تتحرك بحركة أزلية‘؛ فلسفيًا، إن فكرة التحرك الذاتي (automouvement) هي من أسخف الأفكار الفلسفية الخاطئة”.
– اجتماعي: لأنه يريد الكلام عن العدالة، كثورة ضد الاستغلال، ضد الفقر وضد كل أنواع الكبح الاجتماعي. يبشر ماركس بخلاص اجتماعي يريد أن ينقل وعد الخلاص في الآخرة إلى الحياة الحاضرة.
إذا ما أردنا أن نختصر المسيرة التي قمنا بها حتى الآن نقول أنه بعد أن وضع فويرباخ ركائز سرده في أسطورة ألوهة الإنسان، ترجم ماركس نتائج هذا الاعتبار في السرد الاجتماعي. تلبس أسطورة التقدم مع ماركس حلة تفاؤل تاريخي فردوسي مصبوغ بلكنة دينية، وعتبة هذا الفردوس كانت المطهر الفويرباخي (H. De Lubac, op. cit., 39). وكما في فويرباخ، نجد في سطور ماركس رفضًا مسبقًا (a priori) للدين، رفضًا لا منطقيًا بل إيديولوجيًا، وليد صورة جريحة عن الدين، ومرة أخرى نعي أن حوارنا مع الإلحاد يجب أن يبنى لا على الجدل المنطقي بل على التوعية لجراح المصورة الدينية التي تحتاج البلسمة والتطهير.