نيتشه: تعويض البشرية عن حياتها المنفية

أسطورة التقدم الأفقي (6)

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

بقلم روبير شعيب

الفاتيكان، الجمعة 11 سبتمبر 2009 (Zenit.org). – الشخصية الثالثة التي نعتبرها في تحليلنا للإلحاد الأنسي هو فريدريخ نيتشه. إن مؤلف “هكذا قال زاردشت” هو شخصية مليئة بالتناقضات الحياتية والفكرية إذ ينتمي في آن إلى الحداثة وما بعد الحداثة: فأحيانًا هو أنسي متفائل، وأحيانًا أخرى هو شاهد فذ لفشل المشروع الأنسي. يبشر نيتشه بتقدم البشرية نحو “الإنسان المتفوق”، ويعيش في الوقت عينه خيبة ما بعد الحداثة في اعترافه بفشل مشروع التقدم. ومن هذا المنطلق يدعو نيتشه الإنسان إلى اعتناق عدميته وإلى عدم خلق إله ليخلص وجوده المنعدم جوهريًا.

في صرخته “الله مات”، التي يرددها على لسان المجنون في “المعرفة الجذلة” (Die fröhliche Wissenschaft)، يعرب نيتشه عن إدراكه أن البشرية، من خلال قتل الله، “قد محت الأفق باسفنجة”، وها هي الآن “تائهة دون وجهة” (Cf. F. Nietzsche, “La gaia Scienza”, in Opere 1882/1895, 1993, 121-2).

أما بالنسبة لنظرة نيتشه حول الله وحول نشأة فكرة الله، فهو يعتبر أن الدين ينشأ عن “ازدواجية نفسانية” حيث الله ليس إلا مرآة يرى فيه الإنسان انعكاس صورته. الإنسان، في محطات قوية وخاصة من حياته، يعي بشكل واضح “قوة” الحب الموجودة فيه، ولكن، بسبب الخوف من قدراته، لا يجرؤ أن ينسب إلى ذاته هذه القوة وهذا الحب، ويُسقِطه على كائن فائق الطبيعة، وهنا تنشأ الإزدواجية النفسانية حيث ينسب الإنسان إلى ذاته كل ما هو بائس وحقير، ويُسقط على الله كل ما هو سامٍ ورائع (H. De Lubac, op. cit., 42).

هناك مفارقة في فهم نيتشه للعلاقة بين الدين والحياة، فمن ناحية يصرح بأن الدين – مع الميتافيزيقا [الماورائيات] والأخلاق والعلم – ليس إلا “أكذوبة” تساعدنا على “الإيمان بالحياة”. الدين بالنسبة لنيتشه هو خليقة الإنسان وثمرة “إرادته الفنية، الإرادة الكاذبة، ورغبة الهرب من الحقيقة، ورفض الحقيقة” (Cf. F. Nietzsche, “La volontà di potenza”, in Opere 1882/1895, 1993, 1041)، يبتكره الإنسانُ لكي يستطيع أن يبقى على قيد الحياة في ظل تفاهة وعدمية الوجود.

ولكن من ناحية أخرى، يعتبر نيتشه أن مفهوم الله قد ابتكر “ضد مفهوم الحياة، فهو يتضمن الخلاصة المريعة لكل ما هو مضر، وَسَام، وكل الأخلاق المعادية للحياة” (F. Nietzsche, “Ecce homo”, in Opere 1882/1895, 1993, 898). لذا، ومن باب الترتيب المنهجي، يمكننا أن نرى في شذرات كتابات نيتشه تطورًا جدليًا في مرحلتين:

المرحلة الأولى هي عندما يخلق الإنسان الدين لكي يجعل الحياة ممكنة: يعتبر نيتشه أن الإنسان لا يتحلى بشجاعة مواجهة الحياة في وحدة الموحشة، ولهذا يخلق الله؛ ومن هذا المنطلق نجد ربطًا حميمًا بين الله والحياة (الحياة في هذا الإطار هي مجرد بقاء على قيد الحياة، وعدم الانتحار):

“الله ضروري، ولهذا يجب أن يكون موجودًا.

ولكنه ليس موجودًا.

لذا تستحيل الحياة” (F. Nietzsche, “La volontà di potenza”, op. cit., 1012)

المرحلة الثانية تتألف من أن الإنسان يستخدم الدين لكي يخزن فيها كل ما هو “مناهض للحياة” ومناهض للغرائز. وبالتالي يجعل الحياة غير ممكنة. باسم الله، يفرض المرء على ذاته نهجًا أخلاقيًا غير إنساني يفرغ الإنسان من غرائزه. وفي المسيحية يبلغ إفراغ الإنسان لذاته لصالح الله ذروته. وهنا نلاحظ كيف أن نيتشه يعرض بشكل معكوس مفهوم إفراغ الذات أو إخلاء الذات (kenosis) الكريستولوجي والمسيحي (راجع فيل 2، 7) مصرحًا أن في الواقع ليس الله هو من يخلي ذاته لأجل الإنسان، بل هو الإنسان الذي يفرغ ذاته “آخذًا صورة العبد” (فيل 2، 7). والمسيحية هي قمة الانحطاط لأنها علمت البشر أن يحتقروا الغرائز الحياتية الأولية؛ وابتكرت “خدعة وجود نفسٍ وروحٍ لكي تدنس الجسد”، وعلّمت البشر أن يروا “أمورًا دنسة في أصول الحياة والجنس، وسعت إلى جعل مبدأ ضرورة النمو، ومبدأ الأنانية الصارمة (والكلمة عينها باتت تشهيرية!) مبدأ الشر”. وبالمقابل، بحسب تحليل نيتشه، اعتبرت المسيحية “قيمًا سميا مواجهة الغرائز… واللامبالاة (اللاهوى)، وفقدان الثقل، وامّحاء الشخصية، وحب القريب” الذي يعتبره نيتشه “مرض القريب”.

إن أخلاق التضحية والإماتة المسيحية بالنسبة لنيتشه هي “أخلاق الانحطاط”. فهذه الأخلاق هي “من نتاج فرط حساسية البؤساء، التواقون إلى الانتقام من الحياة”.

إذا ما قارنّا نظرة نيتشه إلى نظرة الفيلسوفين اللذين استعرضناهما آنفًا (فويرباخ وماركس)، نرى أنه يقوم بخطوة أخرى إلى الأمام: فهذان الأخيران يحاربان الدين ولكن من منطلق نظري، ويحفظان من إرث الدين التعاضد و “حب الإنسان”. أما مع نيتشه فنجد ذواتنا في ثورة أكثر جذرية وأكثر غضبًا؛ فهو لا يثور على إله المسيحيين وحسب، بل أيضًا على كل الإرث الأخلاقي الذي خلفته المسيحية، ويبشر بـ “الإنسان المتفوق” (Übermensch) الذي لا يعيش من أخلاقيات “قطيع النعاج”، بل من أخلاقيات الأسود، أخلاق القوة والسلطان.

هذا ويضع نيتشه مسودة يحاول معها أن يعيد أواصر “خطوبة” الإنسان مع العالم، الذي كان قد طلقه إثر الحرب الرابحة التي خاضتها المسيحية ضد التكريم الوثني للكون (Cf. K. Löwith, Dio uomo mondo da Cartesio a Nietzsche, Napoli 19662, 103).

بالواقع، إن مقولة “الله قد مات” الشهيرة، ليست، في فكر نيتشه، نظرية ماورائية بل هي عملية طبيعية يموت فيها الله لأن البشر يكفّون عن تغذية وجوده في ضمائرهم. سيحوز العالم بيئته الحياتية، وبشكل طبيعي وعفوي، لن يعود هناك مكان لله، لأن الله – بحسب نيتشه – هو إله الميتافيزيقا، إله الأدبيي
ن، وإله المسيحيين؛ وهذا الإله هو خاسر طبعًا يستحق الموت لكي يفسح للإنسان الديونيزي أن يشعر بنبض الحياة، وبرعشة المغامرة.

موت الله هو إلى حد ما “فجر”، فخبر موت “الله العجوز” ليس مدعاة للكآبة أو اليأس بل هو بالنسبة لنيتشه خبرة جذلة تشابه انسياب خيوط النور في فجر جديد”. خبر الموت هذا هو بشرى سارة “تملأ القلب عرفانًا، ودهشة، وتوقعًا وانتظار”. فالأفق، بعد أن زال وجه الله “يظهر لنا حرًا من جديد”، و “تستطيع سفننا أخيرًا أن تبحر متحملة وقر المجازفة؛ باتت كل أشكال مجازفة المعرفة ممكنة، والبحر، بحرنا هو مفتوح أمامنا من جديد، إن بحرًا مثل هذا ربما لم يوجد من قبل قط”(F. Nietzsche, “La gaia Scienza”, op. cit., 172).

نلمس في هذا المقطع من “المعرفة الجذلة” الحبور الذي يتوقعه نيتشه من إدراك البشر أخيرًا أن الله قد مات. فهذا الموت هو مرادف لانفتاح على الحياة، على اعتراف بالعالم وتبحر في معرفته، وأيضًا قبول تسليم الإنسان لوحشة خطيرة خالية من الدين والأخلاق (راجع: I. Sanna, L’antropologia cristiana tra modernità e postmodernità, Brescia 20043, 162). هذه الوحشة الدينية والأخلاقية تتطلب من الإنسان نضج اعتناق شظف وفراغ الحياة دون أن يحتاج إلى الارتماء في أحضان إله تعزية مزيف.

نحن بصدد “اعتزاز وتفاخر الإنسان، إنسان المتفوق الذي يقتل الله: “ما تسمونه أنتم عالمًا، يجب عليكم أن تخلقوه أولاً… لو كان هناك آلهة، كيف لي أن أتحمل ألا أكون إلهًا ؟ لذا ليس هناك آلهة… الله هو فرضية؛ ولكن من يستطيع أن يشرب كل ضيق هذه الفرضية دون أن يموت؟… الله فكرة تلوي كل ما كان مستقيمًا وتهز دعائم كل ما يقف بقدرته الذاتية” (F. Nietzsche, “Così parlò Zarathustra.  Un libro per tutto e per nessuno”, in Opere VI/I, Milano 19864, 100, citato da I. Sanna, op. cit., 163).

“ديونيسيوس ضد المصلوب”: هكذا ينهي نيتشه كتابه “هوذا الإنسان” (Ecce Homo)؛ يفضل أن يموت الله لكي يعيش الإنسان (F. Nietzsche, “Ecce homo”, op. cit., 1993, 899).

لقد غيّر ديكارت فلسفيًا هيكلية العلاقة بين الإنسان والله، وحوّل كانط معنى هذه العلاقة، أما نيتشه، فقد قام بخطوة أبعد من كليها إذ نفى هذه العلاقة ودمرها. لقد أزال نيتشه الله من صيغة الأدبيات البشرية وحمل الحداثة إلى أقصى نتائجها المتطرفة.

إن نفعية فكرة الله التي قدمتها الحداثة تهدف “إلى تأليه الإنسان. وهذا الأمر كان ممكنًا إما من خلال جعل الإنسان كمرحلة من مراحل صيرورة الله (سبينوزا) أو من خلال جعل الله مرحلة من مراحل صيرورة الإنسان (فويرباخ)” (Cf. W. Kasper, “Autonomia e Teonomia.  Sulla collocazione del cristianesimo nel mondo moderno”, in Teologia e Chiesa, Brescia 1989, 168). ونيتشه يقود أفكار فويرباخ إلى خلاصاتها القصوى: فيصرح مع فويرباخ أن الله هو إسقاط، هو خليقة المخيلة على صورة الإنسان، ولكنه يضيف أيضًا: إذا كان بإمكان الإنسان أن يخلق الله، فهذا يعني أنه يستطيع أن يقتله، أن يفنيه!

لهذا نفهم لماذا يشكل “موت الله” محطة أساسية في مسيرة “الإنسان المتفوق”: فموت الله يرسم بدء تحقيق حرية الإنسان، وتسامي البشرية نحو التفوق.

ولا يغيب عن تحليل نيتشه حالة العدمية وفراغ المعنى التي يجد فيها الإنسان ذاته إثر موت الله. ولكن بدل أن تكون هذه العدمية حالة كآبة، يعتبرها نيتشه حالة “جذل” وحبور، فالعدمية الناتجة عن موت الله هي عدمية الأقوياء الذين يقبلون الحياة بواقعيتها، مع أنوارها وظلالها. في هذه النظرة، الله ليس ضروريًا لا أنطولوجيًا (ديكارت) ولا أخلاقيًا (كانط): الله منسي ولا نفع له، ببساطة…

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير