بقلم روبير شعيب
الفاتيكان، الاثنين 14 سبتمبر 2009 (Zenit.org). – نصل إلى ختام مقالتنا ولا بد أن نتوقف لحصاد بعض الخلاصات بعض استعراض ربما بدا قاحلاً وتكنيكيًا. لقد حرصنا على النظر بموضوعية إلى فكر الفلاسفة الثلاثة الذين اعتبرناهم، وبالتالي كان عدلاً أن نقدم فكرهم بطريقة لائقة دون الإجحاف بحقهم وبحق ذكائهم ومسيرتهم من خلال عرض ساخر أو متحيز.
كما سبق وأشرنا هذه المقالة تأتي كمتابعة لسابقتها (الأسطورة المنطقية). وقد لاحظنا في إطار هذا التحليل لأسطورة التقدم الأفقي تحولاً في جدول الأولويات والأهداف: فبينما نشأ نقد العقلية للدين باسم الحقيقة (verum)، جاء نفي الدين وإله المسيحيين في إطار نظريات التقدم باسم الخير (bonum)، خير البشرية، وباسم التعويض، وباسم تنوير أنسي (illuminismo umanista) يهدف إلى عتق الإنسان من ديكتاتورية الآلهة وتسليمه مفاتيح ملكوته الأنسي حتى يبني دينًا على صورته فمثاله.
سنقوم في مقالة مقبلة بتمييز روحي مدقق لنتائج ولمكنونات اقتراحات فويرباخ، ماركس ونيتشه، ولكن، في هذا المقام، نود أن نعرض بشكل ملخص نقطة التلاقي بينهم: يقوم الفلاسفة الثلاثة بإنكار الله معتبرين إياه “عدو الطبيعة البشرية”، أنثروبولوجيًا، اجتماعيًا وحيويًا (غرائزيًا).
يلاحظ اللاهوتي اليسوعي مايكل باكلي أن مفهوم “عدو الطبيعة البشرية” هو مشهور جدًا في التقليد الروحي (النسكي، الصوفي واللاهوتي) المسيحي، ويتم استعماله للإشارة إلى الشيطان (M.J. Buckley, Denying and disclosing God. The ambiguous progress of modern atheism, New Haven 2004, 98).
بالعمق، لقد توصل هؤلاء الثلاثة إلى الاتفاق على التصريح بأن إله المسيحيين هو في نهاية المقام، الإله الشيطاني عدو الإنسان، لأن الشيطان هو معادٍ للبشرية. هذا ما يفهمنا أن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، آباء الإلحاد المعاصر – والذين يعيشون بالتالي في ‘جينات‘ الملحد المعاصر ومذاهب الإلحاد العملي والنظري الحالية – إنما يحملون في مخيلتهم وذهنهم صورة مشوهة عن الإله الحق “محب البشر” (philanthropos). وإذا ما اعتبرنا أن هؤلاء الفلاسفة ليسوا مجرد أشخاص مفردين بل ممثلي تيارات فكرية ووجودية متفشية، لا يمكننا إلا أن نقشعر بسبب تفشي نظرة مشوهة كهذه عن الله، إله يسوع المسيح. إن هذا الإله المعادي للبشرية هو إله ينكره المسيحيون قبلهم. ويصدق اللاهوتي خوان آرياس عندما يكتب كتابًا بعنوان “لا أؤمن بهذا الإله”.
ولكن ما يجمع بين هؤلاء الفلاسفة أيضًا هو ثقة عمياء ولا محدودة في مقدرات الإنسان، ثقة قد تبدو لنا ساذجة. ولكنها كانت موقفًا منتشرًا في عصرهم، عصر الاكتشافات الجغرافية، والصناعية حيث بدا الأفق اللامتناهي غنيمة محببة وبسيطة أمام إنسان يعيش تقدم مضطرد نحو الأفضل. لقد ظن فلاسفتنا، لدى رؤيتهم قدرة الإنسان الخلاقة في حقول المادة أنه يستطيع أن يخلق معنى وجوده العميق. ولكن هذه الثورة الأنسية كانت حلمًا سبح في خيالاته رجالات نسوا “الصلاة والسحر“.
لقد ظنوا أن إسهامهم سيصل أخيرًا إلى نشوة صيرورة الإنسان إلهًا للإنسان (homo homini deus) بحسب مقولة فويرباخ، ولكن التاريخ ضرب عرض الحائط هذا الوهم ومزقت شذراته الأحلام، واكتشفت الأجيال التالية من جديد أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان (homo homini lupus) بحسب مقول فيلسوف الاجتماع توماس هوبز.
بعد هذه المسيرة المطولة في ضمير الحداثة سنتوقف في مقالة مقبلة على التمييز الروحي لأسطورة التقدم الأفقي. كانت الغاية من هذه المقالة أن نسير نحو جذور حاضرنا، لكي نتمحص في وعوده، حتى نتمكن بشكل أفضل أن نعي أن قلبنا يتوق إلى أمر أعمق من التقدم الصناعي، أو التقني، أو التكنولوجي. هذه المقالة هي بمثابة فحص ضمير ومسيرة منهجية تربوية للإجابة على السؤال الأول الذي يطرحه الله على آدم في سفر التكوين: “أين أنت؟ (تك 3، 9) والسؤال الذي يطرحه يسوع في إنجيل يوحنا: “ما تطلبان؟” (يو 1، 38؛ 18،4)، سؤالان ضروريان للوصول إلى الإجابة على السؤال الجوهري: “من تطلب [ين]” (يو 20، 15).