"يجب أن نتوق لإنارة جميع الشعوب بنور المسيح"
حاضرة الفاتيكان، الثلاثاء 15 سبتمبر 2009 (Zenit.org) – ننشر في ما يلي كلمة بندكتس السادس عشر ليوم الرسالات العالمي الثالث والثمانين الذي سيحتفل به هذه السنة يوم الأحد الواقع في 18 أكتوبر.
هذه الرسالة الصادرة بتاريخ 29 يونيو، عيد القديسين بطرس وبولس، نشرت في 5 سبتمبر الجاري في ست لغات.
"ستسير بنورها الأمم" (رؤ 21، 24)
في هذا الأحد المخصص للرسالات، أتوجه أولاً إليكم أيها الإخوة في الخدمة الأسقفية والكهنوتية، ومن ثم إليكم إخوتي وأخواتي، شعب الله أجمع، لتشجعيكم على إدراك تفويض المسيح التبشيري الذي منحه لكم لـ "تتلمذوا جميع الأمم" (مت 28، 19) على خطى القديس بولس، رسول الأمم.
"ستسير بنورها الأمم" (رؤ 21، 24). ترمي رسالة الكنيسة إلى إنارة جميع الشعوب بنور الإنجيل خلال رحلتها عبر التاريخ نحو الله، فتتحقق فيه بالكامل. يجب أن نتوق لإنارة جميع الشعوب بنور المسيح المتألق على وجه الكنيسة ليجتمع الكل في العائلة البشرية الواحدة وفي ظل الأبوة الإلهية المحبة.
من هذا المنطلق يعمل تلاميذ المسيح المنتشرون في كل أنحاء العالم، ويناضلون ويئنون تحت عبء المعاناة حتى بذل أنفسهم. هنا أكرر بشدة ما أكده أسلافي الأجلاء مراراً وتكراراً: إن الكنيسة لا تعمل لبسط نفوذها أو فرض سلطتها، وإنما لإرشاد جميع الشعوب إلى المسيح، خلاص العالم. إننا نسعى فقط إلى وضع أنفسنا في خدمة البشرية جمعاء، منها بخاصة المتألمين والمهمشين لأننا نؤمن بأن "مجهود إعلان الإنجيل لشعوب اليوم... هو خدمة للجماعة المسيحية لا بل أيضاً للبشرية جمعاء" (التبشير في العالم المعاصر، Evangelii Nuntiandi، 1) التي "شهدت إنجازات رائعة ولكنها تبدو كأنها فقدت حس الوقائع الجوهرية والوجود عينه (رسالة الفادي، Redemptoris Missio، 2).
جميع الشعوب مدعوة إلى الخلاص
في الواقع أن البشرية جمعاء مدعوة إلى العودة إلى أصلها، إلى الله، لأنها تتحقق فيه وحده من خلال تصحيح كل الأمور في المسيح. فالتشتت والتعددية والصراع والعداوة تشفى من خلال دم الصليب فتتجه نحو الوحدة.
من الممكن رؤية هذه البداية الجديدة في قيامة وارتفاع المسيح الذي يجتذب كل الأشياء إليه، مجدداً إياها وسامحاً لها بالمشاركة في فرح الله الأبدي. إن مستقبل الخليقة الجديدة يسطع الآن في عالمنا ويشعل الرجاء لحياة جديدة على الرغم من التناقضات والمعاناة. تقوم رسالة الكنيسة على نشر الرجاء بين كافة الشعوب. لذلك يدعو المسيح تلاميذه ويبررهم ويقدسهم ويرسلهم إلى إعلان ملكوت الله لكيما تصبح جميع الأمم شعب الله. فقط في هذه الرسالة، تُفهم رحلة البشرية. لا بد من أن تصبح الرسالة الجامعة ثابتة وأساسية في حياة الكنيسة. وعلى مثال الرسول بولس، لا بد من أن يكون لنا إعلان الإنجيل واجباً أساسياً ومحتماً.
الكنيسة الحاجّة
إن الكنيسة الجامعة التي لا تعرف حدوداً أو تخوماً تدرك مسؤوليتها في إعلان الإنجيل إلى كافة الشعوب (التبشير في العالم المعاصر، Evangelii Nuntiandi، 53). يجب على الكنيسة المدعوة إلى أن تكون بذرة الرجاء أن تستكمل خدمة المسيح في العالم. لكن حجم رسالتها وخدمتها ليس على مستوى الاحتياجات المادية أو حتى الروحية التي تنجز في إطار الوجود الزمني، وإنما هو خلاص سامٍ يتحقق في ملكوت الله (التبشير في العالم المعاصر، Evangelii Nuntiandi، 27). وعلى الرغم من أن هذا الملكوت أخروي وليس من هذا العالم (يو 18، 36)، إلا أنه في هذا العالم وضمن تاريخه قوة للعدالة والسلام والحرية الحقيقية واحترام كرامة كل إنسان. تتمنى الكنيسة أن تبدل العالم من خلال إعلان إنجيل المحبة الذي "ينير دوماً العالم المظلم ويمنحنا الشجاعة اللازمة للاستمرار في العيش والعمل... وبذلك... يسمح بدخول نور الله إلى العالم (الله محبة، Deus Caritas Est، 39). بهذه الرسالة، أجدد دعوتي إلى جميع أعضاء الكنيسة ومؤسساتها للمشاركة في هذه الرسالة وهذه الخدمة.
رسالة إلى الأمم
لذلك، تتجلى رسالة الكنيسة في دعوة كافة الشعوب إلى الخلاص الذي يحققه الله من خلال ابنه المتجسد. لذا من الضروري تجديد التزامنا بإعلان الإنجيل، خميرة الحرية والتقدم والأخوة والوحدة والسلام (إلى الأمم، Ad Gentes 8). أود "التأكيد مجدداً على أن مهمة تبشير جميع الشعوب بالإنجيل تشكل رسالة الكنيسة الأساسية" (التبشير في العالم المعاصر، 14)، هذه الرسالة التي تجعلها المتغيرات الكبيرة في المجتمع الحالي أكثر إلحاحية. فخلاص البشر الأبدي، وهدف التاريخ البشري والكون وإنجازهما على المحك. من خلال الاستلهام من رسول الأمم، يجب أن ندرك أن لله شعباً كثيراً في كل المدن التي يزورها رسل اليوم (أع 18، 10). لأن "الوعد هو لكم ولأولادكم وللبعيدين جميعاً، يناله كل من يدعوه الرب إلهنا" (أع 2، 39).
يجب أن تلتزم الكنيسة جمعاء بالرسالة إلى الأمم حتى تتحقق سلطة المسيح الخلاصية بالكامل: "ولكننا الآن لا نرى كل شيء تحت سلطته" (عب 2، 8).
مدعوون إلى التبشير بالإنجيل بالشهادة
في هذا اليوم المخصص للرسالات، أذكر في الصلاة الأشخاص الذين كرسوا حياتهم حصراً للعمل على التبشير بالإنجيل. أذكر بخاصة الكنائس المحلية والمرسلين والمرسلات الذين يشهدون لملكوت الله ويبشرون به في ظروف الاضطهاد وفي ظل أشكال القمع المتراوحة بين التمييز الاجتماعي والسجن والتعذيب والموت. حتى اليوم، كثيرون يقتلون من أجل "اسمه". ما تزال كلمات سلفي الحبيب، البابا يوحنا بولس الثاني، تخاطبنا بقو ة: "سمحت لنا الذكرى اليوبيلية برؤية آفاق رائعة مظهرة لنا أن زماننا زاخر بالشهود الذين تمكنوا من عيش الإنجيل بطرق مختلفة وسط العدائية والاضطهاد حتى سفك دمائهم" (في مطلع الألفية الجديدة، Novo Millennio Ineunte، 41).
تُمنح المشاركة في رسالة المسيح أيضاً إلى المبشرين بالإنجيل الذين سيلقون مصير سيدهم. "اذكروا الكلمة التي قلتها لكم: ليس عبد أعظم سيده. فإن كان أهل العالم قد اضطهدوني، فسوف يضطهدونكم" (يو 15، 20). تسلك الكنيسة المسار عينه، وتعيش مصير المسيح، لأنها لا تعمل على أساس منطق بشري أو بالاعتماد على قدرتها الخاصة، وإنما تتبع درب الصليب فتصبح في ظل الطاعة البنوية للآب شاهدة ورفيقة للبشرية جمعاء.
أذكر الكنائس القديمة والأخرى الحديثة بأن الرب أرسلها لنا لتكون ملح الأرض ونور العالم، ودعاها إلى التبشير بالمسيح، نور الأمم، في أقاصي المعمورة. لا بد لها من اعتبار الرسالة إلى الأمم أولوية رعوية.
أشعر بالامتنان للجمعيات التبشيرية الحبرية وأشجعها في خدمتها الأساسية القائمة على تعزيز النشاط والإعداد التبشيريين وتأمين المساعدة المادية للكنائس الحديثة. من خلال هذه المؤسسات الحبرية، تتحقق الشركة بين الكنائس عبر تبادل الهبات، والاهتمام المتبادل والمساعي التبشيرية المشتركة.
خاتمة
لطالما كانت الحماسة التبشيرية رمزاً لحيوية كنائسنا (رسالة الفادي، Redemptoris Missio، 2). مع ذلك، لا بد من إعادة التأكيد على أن التبشير بالإنجيل هو عمل الروح، وقبل أن يكون عملاً، هو شهادة وتألق المسيح (رسالة الفادي، 26) من قبل الكنيسة المحلية التي ترسل رجالاً ونساءً للتبشير خارج حدودها. لذلك أطلب من جميع الكاثوليك رفع الصلوات للروح القدس ليزيد حماسة الكنيسة لرسالتها المتمثلة في نشر ملكوت الله ودعم المبشرين الرجال والنساء والجماعات المسيحية الملتزمة أولاً بهذه الرسالة، وأحياناً في ظروف من العداء والاضطهاد.
في الوقت عينه، أطلب من الجميع إعطاء رمز موثوق عن الشركة بين الكنائس من خلال تقديم المساعدات المالية، بخاصة في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها البشرية جمعاء، في سبيل السماح للكنائس الفتية المحلية بإنارة الأمم بإنجيل المحبة.
في هذا العمل التبشيري، فلترشدنا مريم العذراء، نجمة التبشير الجديد بالإنجيل، التي أعطت المسيح للعالم ليكون نور الأمم ويحمل الخلاص إلى "أقصى الأرض" (أع 13، 47).
أمنح بركتي للجميع.
من الفاتيكان، 29 يونيو 2009
البابا بندكتس السادس عشر
ترجمة وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2009