روما، الأربعاء 23 سبتبمر 2009 (Zenit.org). – قد يختلط على البعض أحيانا مفهوم الدّولة العلمانيّة وأنواعها، إذ لا يتمّ التّمييز الحقيقيّ ما بين العلمانيّة الإيجابيّة (Laïcité) التي تفصل بين الدّين والدّولة بدون إلغاء الدّين بصورة عامّة، وبين العلمانيّة السّلبيّة (Laïcisme) التي تناوئ الدّين، لا بل تهدف إلى القضاء عليه.
I. نظريّة العلمانيّة الإيجابيّة ( (Laïcité
إنّ عبارة “علمانيّ” هي تعريب للكلمة اليونانيّة Laos أي الشّعب. أمّا كلمة (Laïcité) فهي أصلا عبارة فرنكوفونيّة (Cf. J. Bauberot, “Genèse du concept de laïcité en Occident”, Islam et laïcité, (sous la direction de M. Bozdemir), Paris 1996, p. 10)، وهي تعني استقلاليّة الدّولة من النّاحية الثّقافيّة والتّشريعيّة (Cf. F. Ruffini, Relazioni tra Stato-Chiesa. Lineamenti storici e sistematici, (a.c.d.) M. Broglio, Bologna 1974, p. 25.).
فالطّبيب واللاهوتيّ الإيطاليّ مارسيليو دا بادوفا (1270-1342) Marsilio da Padova هو الذي أرسا عام 1324 أساسات الدّولة العلمانيّة المعاصرة، معلنا أنّ للدّولة ملء السّلطة في الأمور الزّمنيّة والرّوحيّة على حدّ سواء؛ لكنّه رفض أفهومة السّلطة الإلهيّة، ولم يحترم استقلاليّة الكنيسة.
أمّا العلمانيّة الحقيقيّة في مفهومها اليوم، فهي السّيادة المستقلّة للدّولة في الحقل المدنيّ والحقّ الطّبيعيّ، بدون إلغاء سيادة الأديان، مع احترام حريّة الضّمير للمواطنين؛ إنّها السّيادة العليا Summa potestas للدّولة وليس عدم الاكتراث للقيم الدّينيّة (Cf. T. Goffi, Laicità politica e Chiesa, Roma 1961, pp. 42-67).</p>
فالدّولة العلمانيّة الحقيقيّة، لا تتدخّل في شؤون المواطنين الدّينيّة بل تتّخذ موقف الحياد بالنّسبة إلى جميع الأديان؛ وهي لا تدعو إلى مذهب معيّن، ولا تحارب مذهبا، ولا تكره أحدا على اعتناق أيّ دين أو أيّ معتقد (راجع، إيلي نعيم ماضي، في سبيل العلمنة، 1976، ص. 7-8).
انطلاقا من هذه النّظرة الإيجابيّة للعلمانيّة، نستطيع القول إنّ التّكامل بين هذا النّوع من العلمانيّة والقيم الرّوحية، يؤسّس لمستقبل أفضل للإنسان.
II. العلمانيّة السّلبيّة ((Laïcisme:
انطلاقا من فكر مارسيليو دا بادوفا العلمانيّ السّلبيّ، وليد ردّة فعل حادّة على سلطة البابا آنئذ، يعتقد بعض الباحثين أنّ العلمانيّة ((Laïcisme، هي نظريّة فلسفيّة، بل واقع ثقافيّ واجتماعيّ، وتنمية مزمنة لذهنيّة تقاوم المسيحيّة (Cf. T. Goffi, Laicità politica…, pp. 67-70). إنّها ثمرة روح علمانيّة ذات عدائيّة “لحكم الإكليروس” (Cléricalisme) وتدّخلّه في كلّ شيء، وللدّيانة المسيحيّة عموما؛ ألهبت نيرانها أحقاد بعض كبار الماسونيّين في فرنسا (Cf. “Laici, laicità, laicismo”, La Civiltà Cattolica, 3609 (2000) 216) من الذين أشعلوا الثّورة الفرنسيّة (Cf. J. Moreau, Les Francs-Maçon, Paris 2001, p. 27) تحت شعار “حرّيّة إخاء مساواة”. كما يعتقد آخرون أنّها مجرّد ردّة فعل سلبيّة ضد هيمنة الإكليروس في القرون الوسطى، إذ أساء بعضهم استعمال السّلطة الكنسيّة في المسائل المدنيّة (Cf. T. Goffi, Laicità politica …, pp. 71-73). كما يختلط على البعض التّمييز بين مفهومَي العلمانيّة الإيجابيّة والعلمانيّة السّلبيّة.
والجدير بالذّكر، أنّ الدّولة الفرنسيّة التي يؤخذ عليها تاريخيّا مبدأ العلمانيّة السّلبيّة الرّافضة للدّين، قد أنشأت في الأعوام الأخيرة لجنة خاصّة لإعادة النّظر في مفهوم العلمانيّة المعاصرة، دعيت “لجنة العلمانيّة في الجمهوريّة الفرنسيّة” أو “La Commission Stasi”، يرأسها الوزير السّابق برنار ستازي Bernard Stasi؛ أرادت اللّجنة في البداية، التّأكيد على أنّ العلمانيّة ليست نقيضا للدّين، فأوضحت في تقريرها الصّادر عام 2003 الذي تناقلته وسائل الإعلام المحلّيّة والعالميّة، الوجه الإيجابيّ للعلمانيّة الفرنسيّة كمبدأ عالميّ وقيمة جمهوريّة، وقد نشأ هذا المبدأ حسب التّقرير، إبّان الثورة الفرنسيّة سنة 1789، نتيجة انفصام بين الدّولة والكنيسة إلى أن عقدت معاهدة عام 1801 بين فرنسا والكرسيّ الرّسوليّ من أجل تنظيم العلاقة بين الدّولة والمؤسّسة الدّينيّة، لا الفصل أو الحياد تجاهلا للدّين؛ كما لا يجب أن تختزل العلمانيّة بحياد الدّولة التي لا تستطيع تجاهل الواقع الرّوحيّ أو الدّينيّ. فهي تبقى إذاً، وسيلة للتّعايش بين أشخاص لا يتشاركون في المعتقدات عينها.
* * *
الأب فرنسوا عقل، راهب مارونيّ مريميّ يعمل في مجمع الكنائس الشّرقيّة في الفاتيكان، حائز على دكتوراه في القانون الكنسيّ، من جامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، وبكالوريوس في الفلسفة واللاهوت من جامعة الرّوح القدس –الكسليك- في لبنان، وجامعة مار يوحنّا اللاتران الحبريّة في روما، ودبلوم في الدّراسات العربيّة والإسلاميّة، في المعهد البابويّ للدّراسات العربيّة والإسلاميّة في روما. من مؤلّفاته: “شِعْر وْصَلا”، صدر عام 2001، و”أضواء على العلاقات السّياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدّولة اللّبنانيّة”، صدر عام 2007.